الدكتور محمد خالد (1): طبيب القرن 19 لمرضى القرن 21

مدة القراءة 6 د


وُلِد محمد خالد في القرن الـ19. قبل ولادة لبنان بخمسين عاماً تقريباً. ولد في عام 1895، في بيروت، وفيها توفي عام 1981. 86 عاماً قضاها مليئة بخدمة أهالي بيروت ولبنان، تاركاً اسماً لا يزال يرّن بالخير على مسامع اللبنانيين، بعد 40 عاماً من وفاته. ليكون من قليلين جدًاً في التاريخ الحديث، من عاصروا ثلاثة قرون، معاصرةً ملموسة، وحقيقية.

فهذا الرجل “بدأ عمره بالعمل الإنساني وأنهاه بالعمل الإنساني، وعاد بذلك إلى أصالته، إلى بيته إلى بيئة الشيخ محمد توفيق خالد، إلى بيئة الشيخ عبد الرحمن الحوت، إلى بيئة بيروت الأصيلة”، بحسب وصف المؤرّخ الدكتور حسّان حلاق.

تلقّى علومه الأولى في المدارس الأهلية وفي مدرسة والده “المدرسة الخالدية”، والده الذي سيكون لاحقاً أوّل مُفتٍ للجمهورية اللبنانية، بعد تأسيسها. ثم التحق بالكلية الإسلامية “مدرسة الشيخ عباس الأزهري”. وفي عام 1913 التحق بالجامعة اليسوعية. وبعد الحرب العالمية الأولى تابع تعليمه والتحق بالجامعة الأميركية وبكلية الطب في دمشق، ليصير الدكتور محمد خالد.

إقرأ أيضاً: محمد بركات “تبع دار الأيتام” (2/1)

بدأ عمله كطبيب في مستشفى ربيز في شارع كليمنصو. وفي عام 1932 افتتح مستشفاه في البسطة التحتا، الذي استمرّ نشاطه إلى عام 1975. ثم أسّس مستشفى المقاصد وعمل على تطويره وتوسيعه، وانطلق في عمله الإنساني والاجتماعي من بيروت. وكانت “مؤسّسات محمد خالد الاجتماعية” المستمرة بأداء واجبها الإنساني تجاه مئات الأطفال حتى يومنا هذا. ارتبطت حياته الاجتماعية عضوياً بحياته المهنية ومسيرته الوطنية، فكان يقضي وقته بالعطاء الإنساني والوطني، كما يؤرّخه حلاق.

محمد بركات مدير عام “دار الأيتام الإسلامية” السابق طوال 51 عاماً، وعميد العمل الخيري في لبنان والعالم العربي، كانت له تجربة مميّزة معه. يذكره جيداً، ويقول إنّه كان أحد أبرز الأطباء والشخصيات العامة في النصف الأول من القرن العشرين. كانت لديه أصول راقية جداً في العلم والطب والعمل الخيري.

فهو أول من أسّس مستشفى خيرياً. لم يكن لديه أولاد أو عائلة. ترك كلّ ما يملك وقفاً إنسانياً خيرياً. وكان رجلاً ذا مكانة عالية جداً وذا مهابة. كان في قلب المجتمع والسياسة والشأن العام، موثوقاً به جداً، ومدعوّاً لحضور كلّ اجتماع حسّاس ومصيري يحتاج لمن هم فوق السياسيين أهميةً ووطنية: “مكانته كانت أرفع من السياسيين وتتجاوز الزعماء بأشواط، ورفض مناصب سياسية أكثر من مرّة لأنّه كان يرى أنّ السياسة (مبهدلة) وفضّل العمل الإنساني”، بحسب بركات في حديث خاص لـ”أساس”.

محمد بركات كان على رأس عمله في مؤسسات الرعاية الاجتماعية – دار الأيتام الإسلامية، يوم أنشأ الدكتور محمد خالد مؤسساته الاجتماعية. مؤسسة تنافس مؤسسة. وعلى الرغم من ذلك، كان بركات موضع إعجاب وتقدير عند الدكتور خالد. وفي مرحلة ما، طلب منه أن يتولى إدارة مؤسسات محمد خالد إلى جانب عمله، وذلك “عندما أصابت المؤسسات محنة شديدة”، بحسب بركات الذي يؤكد أنّ علاقته بالمؤسسة التي أنشأها الدكتور محمد خالد ظلّت قوية وموثوقة بعد وفاته.

كان محمد خالد، بحسب توصيف أستاذ التاريخ في جامعة بيروت العربية حسان حلاق، مصلحاً اجتماعياً وتربوياً ودينياً، تأثر خلال حياته بالبيئة الدينية والسياسية التي نشأ فيها. رفض المناصب السياسية التي عُرضت عليه في عهد رؤساء جمهورية مختلفين، لأنه لم يكن يؤمن بامتهان السياسة، وكي لا يُقال إنّه استغل منصب والده المفتي. لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون جزءاً أساسياً في العمل الوطني، وإصلاح النظام السياسي في لبنان في عدة محطات.

ومن هذه المحطات كما يذكر حلاق، برز دور محمد خالد في “الكتلة الإسلامية” التي حرصت على تقديم مذكرة لرئيس الجمهورية ألفريد نقاش، تدعو إلى حفظ حقوق المسلمين، وفي مناهضة مرسومي 49 و 50 في العام 1943 لما فيهما من ضرب لحقوق المسلمين في عهد رئيس الجمهورية المؤقت أيوب تابت.

ويؤرّخ حلاق أيضاً تعاون الدكتور في العام 1952 مع كتلة نواب بيروت، حين بدأت تتشكّل القوى السياسية المعارضة، والتي ضغطت على رئيس الجمهورية بشارة الخوري فقام بإصلاحات لإرضاء المعارضة.

استمرّ محمد خالد بالعمل السياسي ردحاً من الزمن، لكنّه أراد، كما كان يردّد، الإصلاح السياسي، وليس امتهان السياسة، بما هي معبر للوصول إلى المناصب

ومن مساهماته الكثيرة، إنشاء “الجبهة الشعبية” عام 1953 التي تكوّنت من حزب “الهيئة الوطنية”، و”حزب الكتائب” برئاسة بيار الجميل، و”المؤتمر الوطني اللبناني” برئاسة الدكتور سليم إدريس. ومن أبرز أعماله حين اجتمع وصحبه برئيس الجمهورية وقدّموا له مذكرة إصلاحية مطالبين بتحقيق الإصلاحات الجذرية في الإدارة وأجهزة الحكم والقضاء على الفساد. وبسبب هذا التصميم، استقال رئيس الجمهورية في فجر 18 أيلول 1952، وكُلّف فؤاد شهاب بتولي رئاسة مجلس الوزراء بشكل مؤقت.

ولم يقتصر النشاط السياسي لمحمد خالد على معالجة القضايا اللبنانية فحسب، بل تطوّع لخدمة القضايا العربية وفي مقدّمتها قضية فلسطين، خلال حرب فلسطين 1948، فاستقبل الجرحى والمرضى في مستشفى المقاصد، وعمل على رعايتهم وتأمين المدارس للطلاب اللاجئين.

استمرّ محمد خالد بالعمل السياسي ردحاً من الزمن، لكنّه أراد، كما كان يردّد، الإصلاح السياسي، وليس امتهان السياسة، بما هي معبر للوصول إلى المناصب. وكان يردّد على مسامع من عايشوه أنّه “قرف” من السياسة في لبنان، خصوصاً بعد بدء مرحلة الحروب الأهلية.

يذكر حلاق أنّه زاره في صيف 1977 في منزله بالبسطة التحتا وقال له: “ليس لديّ من الوثائق والمذكرات ما يفيدك… عليكم أنتم الشباب أن تعملوا في الحقل الاجتماعي والإنساني وإقامة المؤسسات الثابتة التي تستفيد منها الأجيال… هذا يا بنيّ ما يبقى وسواه يذهب جفاء”.

صدقت كلمات خالد، بدليل استمرار مؤسساته بالعمل الإنساني حتى اليوم، متحديةً الصعاب ومرور الزمن، لأن العطاء لا يعترف بالوقت، بل يهزمه أحياناً. فها هو الدكتور الذي ولد في القرن الـ19، يجايلنا في القرن 21، عابراً ثلاثة قرون، في حياة واحدة، عَبَرها بالخير والعمل الحسن.

[PHOTO]

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…