جاءت الزيارة الأخيرة للمبعوث الرئاسي الفرنسي إلى لبنان لتوضح بما لا يقبل الشك أنّ دور الدبلوماسية السعودية هو المحرّك الرئيسي لخريطة “اللجنة الخماسيّة” المؤلّفة من فرنسا والولايات المتحدة وقطر ومصر والسعودية، وذلك وفق الأسس التالية:
1- زيارة المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا والسفير السعودي في بيروت وليد بخاري إلى باريس، حيث وضعا النقاط السعودية على حروف حركة المبعوث الفرنسي بشكل يعيد “شيئاً” من الموضوعية والمشروعية للدور الفرنسي في لبنان. وذلك بعدما تعرّضت الدبلوماسية الفرنسية لحملة تشكيك، بل “نعي”، لقدرتها على تحقيق أي تقدّم في “الغابة” السياسية اللبنانية.
2- الحركة القطرية مستمرّة في لبنان بالتنسيق مع السعودية، باعتبار أنّ الدور القطري مهمّته جسّ نبض الأطراف السياسية اللبنانية حول أسماء المرشحين للرئاسة تحت شعار “الاستكشاف” لا “الالتزام” بأيٍّ من الأسماء.
3- الإدارة الأميركية تتصرّف على قاعدة أنّ الأولويات السعودية لطبيعة الرئيس المقبل هي نفسها “المواصفات” على جدول الأعمال الأميركي. وبالتالي تنتظر اجتماع “الخماسية” لتستمع إلى المستجدّات، وحين يأتي دور الحديث عن مواصفات المرشحين يظهر التطابق مع الجانب السعودي. فما بين الرياض وواشنطن هذه الأيام أكبر بكثير وأكثر عمقاً من الخريطة السياسية اللبنانية، وذلك انطلاقاً من “الممرّ الهندي” الأسطوري (الهند – الخليج – الشرق الأوسط – أوروبا)، مروراً بملفّ الحل الفلسطيني، وصولاً إلى العلاقات المستجدة بين إيران والسعودية. فالدبلوماسية السعودية تفصل “حتى الآن” بين العلاقات بين البلدين وبين الملفّ اللبناني الذي يستطيع الانتظار، وفق الرأي الإيراني، باعتباره “ورقة ضغط” في يدهم حتى إشعار آخر.
لولا الدعم السعودي لم يكن مقدّراً لفرنسا ومبعوثها أن ينجحا في هذه الجولة. دخلت السعودية بقوّتها الناعمة والآثرة. أعادت التوازن إلى طريقة الطرح. دعمت المملكة الحراك الفرنسي
4- يبقى الرأي المصري الذي يتم الاستماع إليه في الاجتماعات الموسعة بدقّة واحترام، لكنّه لا يستطيع تثبيت خريطة قابلة للتنفيذ بسبب انشغالاته الداخلية والحروب الدائرة في الدول المحيطة به، من ليبيا إلى السودان إلى أثيوبيا، وأخيراً وليس آخراً غزّة التي لها بالطبع أولوية الأمن القومي للقيادة المصرية. في الوقت الذي يبذل فيه السفير المصري في لبنان جهداً استثنائياً للإبقاء على الدور الوسطي المصري منتشراً وفعالاً.
5- أما في التفاصيل اللبنانية فقد أظهر الاجتماع الذي دعا إليه السفير وليد البخاري في دارته، وجمع غالبية النواب السُنّة بحضور مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، أنّه صار “للشتات” السُنّي النيابي “مرجعية” معتمدة قادرة على ملء الفراغ وحفظ الحقوق المنصوص عليها في الدستور اللبناني والتي أهمها اللقاء الشهير في قاعة الأونيسكو لحماية الطائف الذي حفظ الاستقرار اللبناني لسنوات طويلة بمبادرة ودعوة من السفير البخاري.
بالعودة إلى التفاصيل، انتهت بالأمس الزيارة “اللودريانيّة الثالثة. استطاع مبعوث الإليزيه الخاصّ أن يبعد شبح التخبّط عن فرنسا في الملفّ اللبناني. رمى الكرة في بيروت. أربك الجميع من معارضة وموالاة، على الرغم من كلّ اضطرابات دولته فرنسا. حفظ ماء وجه “حوار الرئيس نبيه برّي”. دعم التشاورات والنقاشات والحوارات الثنائية والثلاثية شرط أن تساعد فقط على إنهاء الشغور الرئاسي. ولم يؤيّد حوار “الممانعة” التقليدي الفضفاض. التحمت فرنسا بخليّة الأزمة المولجة مساعدة لبنان. أضحت معها جزءاً مفيداً ونافعاً، وباتت تعتمد رؤية الحلّ الدولي المشترك ذات النفس السعودي.
الدعم السعوديّ أنقذ فرنسا
لولا الدعم السعودي لم يكن مقدّراً لفرنسا ومبعوثها أن ينجحا في هذه الجولة. دخلت السعودية بقوّتها الناعمة والآثرة. أعادت التوازن إلى طريقة الطرح. دعمت المملكة الحراك الفرنسي. لم تترك فرنسا يتيمة ووحيدة في مسعاها وجولاتها اللبنانية. أعطتها بتعاونها مزيداً من المقبولية والحضور الإيجابي. تشجِّع السعودية بصورة منفردة ومع دول “الخماسية” والمجتمع الأممي دائماً على استمرار التلاقي والتواصل والتحاور والتشاور فيما بين اللبنانيين من أجل التوافق والتقارب والتفهّم والتفاهم على إعادة تكوين السلطة التي تضمن المصلحة العامة واستمرارية الدولة وتبتعد عن العناوين الباطنية المفخّخة التي تخدش الصيغة وشكل الدولة.
لقد انتهى أمر “الحوار” بالنسبة للمملكة في لبنان مع ولادة وثيقة الوفاق الوطني “الطائف”، فلا يكون الحوار للاتفاق على شكل الدولة وطبيعة النظام والشراكة. فقد أتمّ لبنان هذه المرحلة “رشدَهُ”، عبر إقراره اتفاق الطائف، الذي أنهى بدوره فترة التحارب والاقتتال، وحمل البلاد إلى مناخ السلم وبناء المؤسّسات.
لا تسمح المملكة ولا الفاتيكان ولا فرنسا ولا الدول الصديقة العودة إلى الوراء. فلا داعي لذلك لأنّها مرحلة محفوفة بالمخاطر. حدّدت المملكة مع “الخماسية” أنّ سقف المشاورات هو إنهاء الشغور الرئاسي. ولا يسمّى هذا حواراً أبداً، بل تبادلاً للأفكار ووجهات النظر، وهو أمر مستحَبّ.
– فهل يعقل أن لا ترحّب المملكة بالتحاور والنقاش، فيما هي رائدة الحوارات والتقاربات وصمام الأمان لها في الشرق والغرب، والوسيطة بين الناتو وروسيا؟
– هل يمكن لفرنسا أن لا تشجّع على التلاقي والتواصل فيما هي تتحاور مع روسيا وإفريقيا وإيران؟
دبلوماسيّة سعوديّة متوازنة
توازن المملكة بحراكها الرصين كلّ تلك الوقائع. أحبطت من خلاله الحوار اللبناني المستدير النافر. أنقذت فرنسا ومبعوثها من خلال الشراكة والتعاون الوثيق من شرك حوار “الممانعة” والفخّ الإيراني الكامن. فبعدما ألبست “الممانعة” وإيران وجهة نظر لودريان “النقاشية” جلباب الحوار، “بدا واضحاً أنّه فخّ هدفه تقوية ملفّها وفرض مرشّحها، وهو أيضاً استمرارية لنفس منوال إيران القاضي بإضاعة الوقت وإحراج فرنسا وحرق أرجل الطاولة الخماسية، والتظاهر بتأييد الحلّ السيادي وعدم التدخّل، والتمنّي على وكلائها في لبنان اتّباع المرونة، فكانت الدعوة إلى الحوار.
حملت هذه المشهدية هروباً من نوعين:
– هروباً إلى الأمام استثماراً للوقت.
– هروباً من سمعة العرقلة والعقوبات وإقفال قاعة الانتخابات الرئاسية، أي البرلمان اللبناني، من خلال ترويج “الممانعة” لفكرة أنّ المعارضة هي المعرقِلة. وهذا ما نسفته المملكة في سياق إدارتها السياسية المتوازنة ودبلوماسيتها الدقيقة. إذ أنّها أحبطت كلّ مكر الفريق الممانع وبدّدت فكرته الحوارية. وأسقطته إلى منزلة “التحاور” و”التشاور”. بعدئذٍ خفتت كلّ الأصوات الناشزة، وانطفأت شعلات المرشّحين غير المطابقة للمواصفات، وجرّدت لودريان من جلباب الحوار.
إقرأ أيضاً: لودريان للنوّاب السُّنّة: نهاية ترشيح فرنجيّة وأزعور
لم يكن لودريان هذه المرّة هو المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاصّ فقط، بل كان مبعوثاً سعودياً و”خماسياً” و”دولياً”. يتكلّم باسم المملكة، ويبشّر بتعاليم الخماسية الدولية. وقد استطاعت المملكة بشكل مشهود:
– إرجاع فرنسا إلى كنف الخماسية.
– تحرير فرنسا من فخّ الحوار الإيراني الممانع.
– منح فرنسا حراكية إيجابية في بيروت.
– استعادة دورها كوسيط نزيه.