العام المقبل هو عام تأكيد المصلحة الوطنية المستقلّة البعيدة عن أيّ أهواء أو انحيازات عاطفية لدول الخليج العربي. قيادات هذه الدول لا تتبع مسألة الخواطر أو التفضيلات المسبقة في تعاملاتها، سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً، ومصلحة الوطن هي التي تحكم العلاقات بينهم وبين المنطقة ومع القوى الكبرى في المنطقة، وقد لوحظ تحرّر خليجي واضح في السنوات الأخيرة من تأثير ونفوذ العلاقات مع الغرب الأميركي والأوروبي في كلّ المجالات. فلم يعد تعامل دول الخليج العربي حاضراً حصرياً في السلاح مع الغرب، وكلّ العالم شرقاً وغرباً أصبح سوقاً مفتوحاً لهم.
تحوّلات الخليج
يمكن تلخيص التحوّلات الطارئة على السياسات الخليجية في القضايا التالية:
1- القرار الاستراتيجي في كمّيات إنتاج النفط تحدّده مصلحة الدول المنتجة في تحالف “أوبك بلاس”، بعيداً عن الرغبات أو الضغوط الأميركية. وكما أكّد وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، فإنّ قرار أوبك يُصنع فقط داخل “أوبك بلاس” بناء على عناصر تقنيّة لا سياسية لخدمة العلاقة بين العرض والطلب.
2- موقف دول الخليج من توجّهات الولايات المتحدة بإزاء حرب غزة، أو حرب اليمن أو الصراعات في السودان والعراق وسوريا ولبنان خليجي بامتياز وإن عارض التوجّهات الأميركية والفرنسية والبريطانية.
العام المقبل هو عام تأكيد المصلحة الوطنية المستقلّة البعيدة عن أيّ أهواء أو انحيازات عاطفية لدول الخليج العربي
3- دخول السعودية والإمارات مجموعة دول البريكس، وقرارات القمّة العربية الإسلامية، والموقف العربي الذي تمثّله إدارات دول الخليج في مجلس الأمن، كلّها مواقف فعليّة تؤكّد استقلالية الرؤية الخليجية.
4- تصفير الإمارات للمشاكل مع إيران وتوقيع اتفاق بكين بين السعودية وإيران برعاية وضمانات صينية يخالفان تماماً الرغبات السياسية الأميركية .
5- ارتفاع الميزان التجاري مع روسيا والصين، على الرغم من الحروب التجارية الأميركية ضدّهما، يؤكّد هذا الموقف.
من لا يلاحظ هذه التحوّلات الفعليّة يقع في مطبّ التحليل السياسي التقليدي الذي تجاوزه الواقع والقائم على فكرة أنّ سيادة وإرادة هذه الدول لا يمكن أن تتجاوزا الإرادة المباشرة للإدارة الأميركية.
سياسات “الخليج الجديد”
هناك ثلاثة أسباب تفسّر السياسات الجديدة لدول الخليج:
– أوّلاً: العقلية البراغماتية الوطنية لحكّام السعودية والإمارات وقطر التي تجاوزت طبيعة العلاقات السابقة التي بدأت بقوّة عند لقاء الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود، وتأسيس اتحاد الإمارات، ووصول الأمير تميم إلى الحكم، وانتقال السلطة إلى السلطان هيثم في عُمان. ونضمّ إلى هذا التطوّر تولّي الأمير مشعل مقاليد الحكم في الكويت الذي أعلن منذ اليوم الأوّل انتهاج سياسة حازمة غير تقليدية بالمفهوم الكويتي.
– ثانياً: القراءة الصحيحة لحالة السيولة والارتباك في النظام الدولي، وتغيّر موازين القوى بنهاية عصر الانفراد الأميركي بقيادة شؤون العالم وبروز قوى لا يمكن تجاهل تأثيراتها مثل الصين وروسيا والهند، وظهور مكوّنات جديدة مثل البريكس ومجموعة شنغهاي.
– ثالثاً: إدراك حكّام دول الخليج أنّ عدم الإصلاح الشامل هو وصفة موت سياسي، وأنّ عدم التقدّم المتكامل لمجتمعاتهم هو تخلّف مخيف عن رغبات مجتمعات شابّة أكثر من ثلثَي سكّانها تحت سنّ الثلاثين. هذه المجتمعات تجيد أكثر من لغة بنسبة استخدامها لوسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على معلومات وثقافات العالم من هذه المرحلة السيّئة.
تحدّيات 2024
تعالوا نستعرض التحدّيات التي تواجه خليج 2024.
نبدأ بالكويت التي فقدت أميرها السابق الذي كان يتميّز بالتواضع والمحبّة ومحاولة تحقيق التهدئة والاستقرار ومنع نشوب الحرائق في العلاقة الملتهبة دائماً بين الحكومة من ناحية والبرلمان من ناحية أخرى.
هذا الخلاف المستمرّ كان يحمل بداخله عدّة مسارات من الاختلافات:
1- اختلاف بين أغلبية سنّية داخلية شعبية.
2- خلاف بين تيّار من جماعة الإخوان المسلمين وأغلبية علمانية مخالفة له .
3- خلاف مصالح في مشروعات كبرى تلعب فيها الحكومة دوراً مؤثّراً بوصفها أكبر مركز للاستثمار الحكومي والبنية في البلاد.
هنا كان يُطرح دائماً في البرلمان ملفّ العناد الحكومي، وتُوجّه تهم بالانتفاع الشخصي والفساد وإهدار المال العامّ.
عام 2024 سوف يشهد عمليّات إصلاح شاملة في قطاعات الدولة، أو ضبط الإنفاقات وإيقاف الهدر في المال العامّ
لقد حدّد الأمير الجديد للكويت في كلمته الناريّة يوم حلف اليمين أمام البرلمان سياسته الحازمة في إعادة بناء البلاد على أسس من الشفافية والنزاهة. وتحدّث الأمير صراحة عن علاقة الفساد والإفساد بين الحكومة والبرلمان التي تسبّبت في ضياع مصالح المواطنين.
من الواضح أنّ عام 2024 سوف يشهد عمليّات إصلاح شاملة في قطاعات الدولة، أو ضبط الإنفاقات وإيقاف الهدر في المال العامّ.
كان أوّل هذه الإجراءات قرار الأمير الجديد بإيقاف كلّ التعيينات الحكومية في جهاز الدولة الذي يعاني من التخمة بعاملين يتقاضون رواتب دون عمل مستحقّ في الوقت الذي تعاني فيه الكفاءات من عدم التمكّن من العمل.
عام 2024 سوف يشهد أيضاً دوراً نشطاً للكويت الجديدة في أمن المنطقة، ولعب دور وساطة ناشط في العلاقات الثنائية بين دول الخليج.
عام 2024 لن يعرف أيّ مجاملة كويتية للأخطاء الأميركية في المنطقة بعد الشعور بالدَّين التاريخي الذي يطوّق عنق الكويت للأميركيين منذ حرب تحرير الكويت.
سوف تستمرّ الكويت بدعم اتفاقياتها مع كلٍّ من الصين وروسيا والهند، وسوف تستمرّ بتجنّب أيّ مواجهة مع إيران والعراق. وبالنسبة للإصلاحات، سوف تفتح ملفّات قوانين الجنسية والاستثمار وعلاقة الحكومة بالبرلمان، وتحسين أوضاع الضمان الاجتماعي والرعاية الصحّية.
والكويت دولة مؤثّرة نفطياً وماليّاً. وهي تحتلّ مركزاً متقدّماً في ترتيب أغنى دول العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي حيث تحتلّ المرتبة الـ36 من بين 193 دولة. وقد تراجع هذا الترتيب خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بعدما کان ترتيبها الـ13 عالمياً مع تعطّل أجهزة الدولة عن أداء دورها بسبب الخلاف الدائم بين البرلمان والحكومة، الذي حمل معدّل الحكومات المستقرّة بعيداً لأنّها تتعرّض لأزمات سحب الثقة منها أو تقديم رموزها الأساسية إلى استجوابات قاسية أو المطالبة بإسقاط عضوية وزرائها.
بالنسبة لعُمان، فقد قطعت السلطنة في عهد السلطان هيثم خطوات سريعة نحو الانفتاح الداخلي، سواء في قوانين الاستثمار أو إجراءات الانفتاح السياحي للسلطنة أو في تنشيط سوق المال العُماني الذي ربّما بلغ أنظار المتعاملين في المنطقة. وسوف يشهد عام 2024 استمراراً للدور العُماني النشط في استخدام مسقط كمنطقة ومركز وساطة للقضايا الإقليمية، سواء كانت بين إسرائيل ودول المنطقة، أو بين الأميركيين والإيرانيين، أو في العلاقات الخلفيّة السرّية التي لجأت إليها دول مجلس التعاون.
يفرض موقع السلطنة عليها مراعاة علاقاتها مع عدّة دول متناقضة المصالح مثل إيران والهند والسعودية. وهي تحرص على أن تكون على علاقات جيّدة مع السعودية، وتسعى إلى دعم أيّ حوار بين الرياض والحوثيين. في الوقت ذاته تسعى دائماً إلى التنسيق مع طهران التي تعتبر مسقط مرکز وساطة موثوقاً به.
تعتمد سلطنة عمان على عمالة آسيوية ضخمة أغلبها من الجنسية الهندية، وترتبط حركة التجارة بين مسقط ونيودلهي مركزاً رئيسياً. لذلك يُتوقّع أن يرتفع الميزان التجاري بين البلدين بشكل مؤثّر في 2024، ويُتوقّع تحسّن مطّرد في علاقات مسقط مع كلٍّ من الرياض وأبو ظبي بالذات في مجالات الاقتصاد.
السعودية والإمارات من القوى المؤثّرة المرجّحة في “أوبك بلاس”. وقطر هي الدولة رقم 3 في إجمالي احتياطي الغاز العالمي
المثلّث الذهبيّ لدول الخليج
هناك مثلّث ذهبي من ناحية التأثير السياسي والقوّة الاقتصادية يمكن دائماً التعويل عليه في موازين القوى الجديدة، وهو: السعودية، الإمارات، وقطر.
الصراع أو الخلاف بين هذا المثلّث يضعف الخليج، والتنسيق المتكامل بين أعضائه يدفع بهذه المنظمة الإقليمية إلى التقدّم الواضح.
مثلاً حينما حدث الخلاف مع قطر، كان ذاك الخصم السلبي لدول الخليج. وحينما تمّت المصالحة وعادت العلاقات الطبيعية، شاهدنا قمماً خليجية ناجحة، وقمماً لهذه الكتلة، واتفاقات مع الولايات المتحدة والصين وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ومع التنسيق بينها حدثت القمّة العربية الإسلامية الطارئة من أجل الفلسطينيين، وتحرّك المجلس الوزاري إلى 14 نقطة في العالم. السعودية تتحرّك، والإمارات في مجلس الأمن تحاول صياغة المشاريع، وقطر تقوم بالوساطة من أجل الإفراج عن الرهائن واستقرار الهدن الإنسانية. والصناديق السيادية لهذه الدول تقارب 1.8 تريليون دولار.
السعودية والإمارات من القوى المؤثّرة المرجّحة في “أوبك بلاس”. وقطر هي الدولة رقم 3 في إجمالي احتياطي الغاز العالمي، وتحتلّ مركزاً مهمّاً في هذه السنوات بسبب تعرّض الدولتين الأولى والثانية في الغاز (روسيا ثمّ إيران) لعقوبات دولية في بيع إنتاجهما.
2024 صياغة التنافس
تدرك الرياض وأبو ظبي والدوحة جيّداً أنّ خطوط تماسّ مشتركة تحميها. فهناك مصالح تنافسية إن لم تنظّم جيّداً تؤدّي إلى تعريض الأمور لإشكاليّات.
أهمّ ما يشكّل تحدّياً في العام المقبل هو حصص كلّ طرف من:
1- سياحة المنطقة.
2- الاتفاق على كمّيات الإنتاج في سوق عالمي متقلّب.
3- الالتزام بقوانين البيان الختامي لمؤتمر كوب 28 في تكاليف وتعويضات الانبعاث الحراري.
4- طبيعة العلاقات الثنائية مع إدارة بايدن في عام الانتخابات الرئاسية.
5- تأثيرات القوى الناعمة مثل قطر ما بعد كأس العالم والاستعداد لكأس آسيا، والسعودية بعد تأثير إقامة إكسبو المقبل، وبدء عمليات العمران، والإمارات بعد النجاح غير المسبوق لقمّة المناخ.
6- تباين بعض المواقف في عدّة صراعات إقليمية مثل اليمن والسودان وفلسطين وليبيا ولبنان.
إقرأ أيضاً: أنطونيو غوتيريش.. “بالكوفيّة” الإنسانيّة
7- أهمّ التحدّيات على الإطلاق كيفية إدارة العلاقة مع تحدّيات إيران ووكلائها في البحر الأحمر، وتأثير ذلك في أمن مسارات التجارة والنفط في المنطقة، خاصة في المشروع الجديد الذي ينطلق من دبي عبر الأراضي السعودية وصولاً للأردن وانتهاء بمصر كي ينقل البضائع إلى الموانئ الإسرائيلية في المتوسط.
العلاقة الشخصية بين الشيخ محمد بن زايد والأمير محمد بن سلمان والأمير تميم، هي حجر الزاوية في إدارة كلّ هذه الأمور في 2024.
الذي يُطمئن أنّ ثلاثتهم يضعون المصلحة العليا فوق العواطف بشكل عاقل شديد البراغماتية.
أو على الأقل هذا تتمنّاه شعوب هذه الدول.