تعطي موازنة 2024 التي أقرّها مجلس النواب انطباعاً بائساً عن دولة منعدمة الموارد ليس بوسعها فعل الكثير لإعادة الانتظام إلى المرفق العام. لكنّ الأرقام الهزيلة المرتجلة لا تنبئ إلا عن رغبة بتصريف أعمال الدولة “بالتي هي أسوأ”.
في ظاهر الأمر، بدا للمرّة الأولى منذ زمن بعيد أنّ بالإمكان معادلة الأرقام بين النفقات والإيرادات، ولو برقم هزيل لا يتجاوز 295 ألف مليار ليرة، أي ما يعادل 3.3 مليارات دولار وفق سعر الصرف في منصة “صيرفة”، وهذا الرقم لا يتجاوز 20% من حجم إنفاق الدولة عام 2019.
يأتي ذلك بعدما حقّقت الدولة، على الأرجح، فائضاً في السنوات الثلاث الأخيرة، مع العلم أنّ وزارة الماليّة متوقّفة عن نشر التحديثات الشهرية لوضع الماليّة العامّة منذ 2021.
ومن غرائب هذه الدولة عبارة وردت في تقرير لجنة المال والموازنة تشير إلى أخبار مجهولة المصدر تفيد بأنّ إيرادات الدولة بلغت في 2023 نحو 207 آلاف مليار ليرة، ونحو 570 مليون دولار، ثمّ لا يرد نفي ولا إثبات من وزارة المالية لهذا الرقم الذي يكفي بالتأكيد لتحقيق فائض. وفيما لا تتوافر أرقام قطع الحساب لعام 2022، تعطي أرقام المتابعة الشهرية لعام 2021 صورة عن فائض بنحو 3 آلاف مليار ليرة.
الحكومة تتوقّع فائضاً بـ25 ألف مليار ليرة على الأقلّ لا تريد إثباته في تقديرات الموازنة، لأنّها لا تريد أن تتحمّل مسؤولية إصلاح القطاع العام وإعادة تفعيل الإدارات العامّة
كيف حقّقت الدولة هذا الفائض؟
ليس تحقيق فائض لثلاث سنوات متتالية عجيبة في ظلّ أكبر أزمة اقتصادية منذ إنشاء الدولة اللبنانية، بل إنّه النتيجة المعقولة لاستقالة الدولة من الكثير من مهامّها، إذ:
– توقّفت عن سداد الديون الخارجية وخدمتها منذ آذار 2020. وقد كانت فوائد الديون الخارجية تراوح بين 3.2 و3.4 مليارات دولار سنوياً.
– توقّفت عن توفير التمويل (السلف) لـ”كهرباء لبنان”، وقد كانت تكلفتها 1.6 مليار دولار في 2019.
– خفضت فاتورة الأجور والرواتب وملحقاتها من نحو 6.6 مليارات دولار في 2019 إلى نحو 46 تريليون ليرة في موازنة 2024، أي ما لا يزيد على 500 مليون دولار.
– كذلك يبقى الإنفاق على الصحّة عند نصف ما كان عليه قبل الأزمة، وتبقى موازنة التعليم عند 12% ممّا كانت عليه في 2019.
السؤال الذي يُطرح على رئيس حكومة تصريف الأعمال الذي يتباهى بتشغيل البلد ببضع مئات من ملايين الدولارات: كيف لدولة أن تقوم بوظائفها الطبيعية، من أمن وإدارة عامّة وتعليم وصحّة وبنية تحتية وإعانات اجتماعية، بإنفاق كهذا؟
الأرقام… غبّ الطلب
ليس الجواب على ذلك أنّ هذه هي إمكانات الدولة. فما هو أسوأ من اعتمادات النفقات، أنّ تقديرات الإيرادات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، سواء في نسختها الحكومية أم في النسخة التي انتهت إليها لجنة المال والموازنة. فالحكومة كانت تقدّر الإيرادات في مشروع القانون الذي أرسلته إلى مجلس النواب بنحو 278 ألف مليار ليرة، ثمّ حين اعترضت لجنة المال والموازنة على وجود عجز بـ17 ألف مليار ليرة أرسلت وزارة المالية كتاباً عجيباً إلى مجلس النواب يرفع تقديرات الإيرادات إلى 320 ألف مليار ليرة، وطلبت اعتماد رقم أقلّ من ذلك هو 295 ألف مليار ليرة، وهو الرقم المعادل تماماً للنفقات المقدّرة في الموازنة، لتكون الأرقام متعادلة تماماً بلا فائض ولا عجز.
الحكومة “المستقيلة حكماً” تحوّلت إلى حكومة مستقيلة من واجباتها، لا تخدم ديونها، ولا تدفع رواتب موظّفيها، وتوكل إلى الأميركيين وسواهم من المحسنين إطعام جيشها وقواها الأمنيّة، ثمّ تقول “ما باليد الحيلة”
هذا الارتجال يعني أنّ الحكومة تتوقّع فائضاً بـ25 ألف مليار ليرة على الأقلّ لا تريد إثباته في تقديرات الموازنة، لأنّها لا تريد أن تتحمّل مسؤولية إصلاح القطاع العام وإعادة تفعيل الإدارات العامّة.
إخفاء إيرادات… لماذا؟
ما هو أبعد من ذلك أنّ تقديرات الحكومة للإيرادات ضربٌ من العبث. خذ تقديرات إيرادات الجمارك مثلاً، التي تقدّرها الحكومة بنحو 30 ألف مليار ليرة، أي نحو 300 مليون دولار. من أين أتى هذا الرقم إذا كانت الإيرادات الجمركية في 2019 تقارب 1.2 مليار دولار؟ صحيح أنّ الإيرادات الجمركية انخفضت بعد الأزمة نتيجة لتقاضي الرسوم على سعر صرف منخفض، لكنّ ذلك تغيّر منذ أن بدأ تطبيق سعر صيرفة في أيار الماضي. وبالتالي فإنّ أقلّ تقدير للإيرادات الجمركية في 2024 يجب ألّا يقلّ عن ضعف الرقم الذي وضعته الحكومة، هذا على افتراض انخفاض قيمة الواردات إلى نصف ما كانت عليه في 2019، وهذا تقدير متحفّظ جداً. ومثل هذا العبث يتكرّر في تقدير الإيرادات الضريبية الأخرى وإيرادات قطاع الاتصالات.
المشكلة في كلّ ذلك أنّ الدولة الكسولة في تقدير إيراداتها، كسولة أيضاً إلى حدّ التواطؤ في تحصيل الإيرادات وتحسين الجباية. فإداراتها معطّلة ومهترئة، ولا تنمّ عن وجود مسؤول يحترم واجباته في أيّ من المواقع.
أين رسوم استيراد بـ10 مليارات دولار؟
ألا تخجل الدولة من قراءة “تقرير المساعدة التقنية” الذي نشره “صندوق النقد الدولي” الشهر الماضي، والذي وصف فيه الحال المخجل في وزارة المالية وإدارة الجمارك، حيث لا يوجد سوى موظّف معلوماتية وحيد في مديرية الإيرادات في وزارة المالية، ولا يوجد أيّ موظف مماثل في الجمارك؟ هل هذه دولة تستطيع حقّاً أن تحصّل رسوم الجمارك على عمليات استيراد تجاوزت قيمتها 10 مليارات دولار خلال ثمانية أشهر فقط من 2023؟
فلنترك جانباً الأزمة السياسية والعجز عن انتخاب رئيس وأزمات المنطقة، فهناك حكومة وصلت إلى يدها إيرادات بأكثر من 3 مليارات دولار العام الماضي، ولم تعرف كيف تأتي بالموظفين إلى مكاتبهم لتشغيل الإدارات وتخليص مصالح الناس، ولم تستطع أن تأتي بموظف معلوماتية واحد لتعزيز الجباية في الجمارك.
إقرأ أيضاً: هل يرفع البرلمان “اللولار” إلى 50 ألفاً؟
الواضح أنّ الحكومة غير جادّة في تقدير الإيرادات أو في تحسينها، ولو أنّها أحسنت تقدير الإيرادات لكان بإمكانها توفير مئة ألف مليار ليرة إضافية لتحسين رواتب القطاع العام على أساس الإنتاجية، ورفع مستوى الكفاءة والجباية، لتحريك النشاط الاقتصادي.
لكنّ الحكومة “المستقيلة حكماً” تحوّلت إلى حكومة مستقيلة من واجباتها، لا تخدم ديونها، ولا تدفع رواتب موظّفيها، وتوكل إلى الأميركيين وسواهم من المحسنين إطعام جيشها وقواها الأمنيّة، ثمّ تقول “ما باليد الحيلة”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@