قد يبلغ العدد مع صدور هذا الكلام عشرة آلاف شهيد، بينهم آلاف الأطفال، وضعفان من الجرحى.
يستحيل لدمٍ غزير كهذا، أن ينتهي مختزَلاً في رصيد زعيمٍ أو سلطةٍ أو نزيلِ فندق أو حسابات إقليمٍ أو نفوذ عاصمةٍ أو أجندة قوّةٍ عظمى.
إنّها آلام ولادة فلسطين.
فما زال في الأرض حقّ وعدل. وحتميّة منطقهما أنّ فلسطين المستقلّة آتية.
سيكون على قيامها أن ينتظر سقوط نتانياهو حتماً. كما تطوّر “حماس” طبعاً. وإلّا قام مِن قلبها، أو مِن أمامها أو خلفها، مَن يجيد ويحقّق استعادة فلسطين الفلسطينية التي تقهر العدوّ وتنتصر على احتلاله، من أجل حياة أهلها، لا لموتهم من أجل ورقة فلسطين الإيرانية أو التركية أو أيّ جنسية أخرى.
عندها سيُطرح السؤال على الأسد وعلى الحزب… وعلى لبنان وعنه.
*****************************
نعم سقوط بنيامين نتانياهو حتمي. فبعد حرب غزّة، وأيّاً كانت نتيجتها، سينتهي الرجل المتّهم بأنّه أمضى حياته بالدجل والتضليل، ووصل بهما إلى حيث وصل.
في حروب إسرائيل السابقة كلّها، كانت نكساتها مدخلاً لسقوط يسارها المؤسّس، وباباً لصعود يمينها. حرب أكتوبر 73 مهّدت لصعود مناحيم بيغن. كذلك أرييل شارون ونتانياهو جاءا من أوهام الانتصارات بعد الضربات. الآن أقصى تطرّف يميني إسرائيلي يحصد أكبر هزيمة في تاريخ الكيان.
سقوط بنيامين نتانياهو حتمي. فبعد حرب غزّة، وأيّاً كانت نتيجتها، سينتهي الرجل المتّهم بأنّه أمضى حياته بالدجل والتضليل، ووصل بهما إلى حيث وصل
نتيجة ذلك قد تكون عكس الاتجاه وقلب النمط، علّه يخرج من هذا الجنون مَن يدرك معنى السلام العادل ومقتضياته، ومَن يعترف بأنّ فلسطين لا تزول وشعبها لا يُقهر ولا يُباد.
عندها سيكون على “حماس” أن تخطو خطوتها. منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادتها التاريخية، كانت مطالبة دوماً بأمرين: إدانة الإرهاب، والاعتراف بحقّ إسرائيل بالوجود. “حماس” ستكون عند الاستحقاق، أمام ثلاثة امتحانات:
– أولاً، أن تلتزم قوانين الحرب وقانون الحقّ الإنساني الدولي في نضالها.
– ثانياً، أن تتخفّف من تيوقراطية منطلقاتها، فتقرّ بأنّ فلسطين قضية وطنية وإنسانية، لا قضية إسلاموية إخوانية. وإلّا فلماذا على أيّ إنسان غير إسلاموي إخواني أن يناصرها، خاصة أنّ سجلّ سلطة الحركة في غزّة ليس مشرّفاً في مجال حقوق الإنسان والحرّيات العامة والدينية تحديداً.
وسيكون عليها ثالثاً، أن تواجه الكيان، في صهيونيّته واحتلاله وتوحّشه، لا أن تستهدفه باسم “الحرب على اليهود”. كما تفيض تلقائية وزلّات لسان أدبيّاتها ولغتها وقواميس من يتكلّمون ويعبّئون لها وباسمها في فلسطين ولبنان وغير مكان.
إذ لن تجد في العالم الحرّ إنساناً واحداً يقف معك في حرب باسم الدين ضدّ اليهود. فيما لن تجد إنساناً واحداً لا يناصر فلسطين القضية الوطنية الإنسانية، قضية احتلال أرض وقهر شعب.
عندما تتكامل هذه المقتضيات، يبدأ مسار تثمير آلام غزّة، ويناع دم الأحرار دولةً حرّة.
وعندها سيكون السؤال مطروحاً على آخر “الجبهتين” العالقتين: جبهة الصمت المستدام في الجولان، وجبهة الموت المستمرّ في جنوب لبنان.
الأهمّ: الموقف من التسوية
طبعاً، ثمّة تفاصيل مادّية وعملية وعملانية كثيرة ستكون مطروحة، أهمّها تحرير الأرض المحتلّة حتى آخر شبر وحلّ قضية اللاجئين.
لكن سيكون السؤال الأكثر إلحاحاً: ما هو موقفكم من التسوية؟
همَّ الأسد سيكون لبنانياً بشكل موازٍ لهمّه الجولانيّ. وقد لا يتردّد في السعي إلى ثمن لبناني إضافي، من نوع عودة دور أو نفوذ. وهنا ستكون عقدة علاقاته مع طهران، ومع الحزب في بيروت
في سوريا، يقال إنّ الأسد بدأ يستعدّ للجواب. قبل أسبوعين، وفي خطوة مفاجئة، أُقفلت سفارة الحوثيين في دمشق. وأُعطي طاقمها وقتاً كافياً لحزم حقائب المغادرة لا أكثر. الكلام هناك أنّ الخطوة مرتبطة بالتطلّع خليجياً، حيث أبو ظبي جاهزة لوساطة “سلام الشجعان” الآتي، مع منطقة حرّة في الجولان، توفّر الازدهار والتنمية، وشعارات الكرامة والتحرير معاً.
لكنّ همَّ الأسد سيكون لبنانياً بشكل موازٍ لهمّه الجولانيّ. وقد لا يتردّد في السعي إلى ثمن لبناني إضافي، من نوع عودة دور أو نفوذ. وهنا ستكون عقدة علاقاته مع طهران، ومع الحزب في بيروت.
سيكون موقف الحزب حينها حجر العقد في مثلّث التجاذب الإيراني السوري اللبناني المرتقب. وسيجد نفسه أمام مطالبته بالجواب الشفّاف والكامل، عن سؤالٍ، غير منصف ربّما: هل هو حزب لبناني أم لا؟
والسبيل الأفضل لذلك هو ترجمة وتجسيد ما وثّقه خطّياً.
في وثيقة التفاهم مع ميشال عون في 6 شباط 2006، وقّع الأمين العامّ للحزب على مفاهيم مطلقة، هذا بعضها:
“تغليب المصلحة الوطنية (اللبنانية) على أيّ مصلحة أخرى، وذلك بالاستناد إلى إرادة ذاتية، وقرار لبناني حرّ وملتزم”.
هو مبدأ أساسي، ألقت الظروف الراهنة الكثير من الظلال حوله وحول أولوية هذه “المصلحة الوطنية”. فليس تفصيلاً أن يسمّى الذين سقطوا من مقاتلي الحزب اللبنانيين الآن “شهداء على طريق القدس”، وإن على أرض لبنان! فيما حروب “طريق القدس” لا تحمل في ذاكرة اللبنانيين سوابق مطمئنة أو مشجّعة، من جونيه إلى كلّ لبنان.
إنهاء السلاح الفلسطينيّ في لبنان
كما أنّ مبادئ أخرى في وثيقة التفاهم نفسها نسيها طرفاها. لا بل مسخاها مسخاً. مثل “إنهاء السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات (…) بما يؤدّي إلى بسط سلطة الدولة وقوانينها على كلّ الأراضي اللبنانية”. فيما السلاح الفلسطيني اليوم يتفشّى فطرياً حيث يسيطر الحزب. وإذ يُسأل عنه، يُنكر ويكتفي بعدم معرفة المصادر والهويّات والأغراض.
ومثل أنّ “حماية لبنان وصون استقلاله وسيادته هما مسؤولية وواجب وطني عام”. فيما التطوّرات الراهنة لا تبدو وكأنّها تحمي لبنان. بل تورّطه وتزجّه وتستدرجه.
أكثر من ذلك، في وثيقته السياسية التي أعلنها أمينه العام في 30 تشرين الثاني 2009، كلامٌ واضح عن أنّ “لبنان هو وطننا”، وعن “سيادته وعزّته وكرامته”، وعن تطلّعات كلّ اللبنانيين لتحقيق “العدالة والحرّية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة”، والحزب “منهم”، كما تؤكّد الوثيقة.
لكن بعد اندلاع حرب سوريا ودخول الحزب فيها، خرج أمينه العام ليعلن في حديث تلفزيوني مباشر في 3 كانون الأول 2013، أنّ شورى الحزب توصّلت بالإجماع إلى قرار بتبنّي نهائية الكيان اللبناني
فضلاً عن أنّ وثيقة التفاهم كانت واضحة حول “حماية لبنان من الأخطار الإسرائيلية من خلال حوار وطني يؤدّي إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها”.
لم يغفل الحزب يومها عن الانتقادات التي طالت وثيقته تلك، وجاء فيها أنّها في حديثها عن لبنان الوطن لم تذكر نهائيّته المكرّسة ميثاقياً ودستورياً والتي هي أصلاً من أدبيّات السيد موسى الصدر. فكيف تسقط في أوّل وثيقة سياسية للحزب؟!
لكن بعد اندلاع حرب سوريا ودخول الحزب فيها، خرج أمينه العام ليعلن في حديث تلفزيوني مباشر في 3 كانون الأول 2013، أنّ شورى الحزب توصّلت بالإجماع إلى قرار بتبنّي نهائية الكيان اللبناني.
هل كان الحزب يناور في ذلك كلّه؟ هل كان يمارس تقيّة سياسية؟
حتماً لا.
ليس أمينه العام من هذا الصنف. وحبر توقيعه على كلّ ما سبق، لم يجفّ ولن… مثل دماء فلسطين.
إثارة الموضوع الآن، فيما الحرب لم تبلغ ذروتها بعد، مجرّد هلوسة؟
كيسنجر و”موافق”
بعد أشهرٍ قليلة على حرب أكتوبر 73، بدأ وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر رحلاته المكّوكية إلى القاهرة ودمشق.
إقرأ أيضاً: غولدا مئير تفضح بايدن وتمتحن الحزب (1/2)
في عاصمة سوريا التقى مبعوث واشنطن بالأسد خمس مرّات بلا نتيجة، حتى كان اجتماعهما في 19 أيار 1974. بدأ كيسنجر الكلام. فقاطعه الأسد قائلاً: “موافق”! فكان اتفاق فصل القوات، الذي مهّد لسلام السادات، واحتلال لبنان.
في أيّ لحظة، وبشكل مباغت مثل هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، يمكن أن تُسمع في مكان ما في منطقتنا، كلمة “موافق”.
علينا أن نكون جاهزين كي يتحقّق “وجود لبنان على حدود فلسطين”، كما تقول وثيقة الحزب، لا أن تقوم فلسطين على أنقاض وأشلاء لبنان، كما يشي الآن سلوك كثيرين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@