سعد الحريري. للاسم توصيفات كثيرة. رجل يحبّ صناعة الصورة الإيجابية، لكنّه يصل إلى نتيجة معاكسة. يتحدّث عن المنطق، ثم يناقضه. يأخذ المبادرة بهدف الإنقاذ، ولتصوير نفسه عنصراً مسهّلاً لا معرقلاً، فتكون النتيجة معاكسة تماماً. لا يجيد لعبة الوقت والنفَس الطويل. ولا لعبة عضّ الأصابع في التفاوض السياسي. كلّ القواعد التي تكرّست شذوذاً في الإدارة السياسية وعملية تشكيل الحكومات، ضريبة يدفعها كلّ لبنان بفعل “خبرته”. هو الذي شجّع ميشال عون على التمادي في خرق الدستور والتعطيل، بعد انتخابه رئيساً. وعندما دنت لحظة إعلان عون التمسّك بالدستور وبأنّه لا يحقّ لأيّ طائفة احتكار وزارة، عاجله الحريري بالانقلاب عليه وعلى منطقه الدستوري. وذلك بفعل سوء التقدير وسوء اختيار التوقيت.
إقرأ أيضاً: ماكرون تشاور مع محمد بن سلمان.. مجرّدا الحزب من صفة “الاحترام”
كلّ التنازلات التي يقدّمها الرجل، يرفقها بعبارة أصبحت متهلهلة: “في سبيل مصلحة البلد”، و”لدرء التعطيل ومواجهة المعطّلين”. لكنّه في النهاية يصوّر نفسه على أنّه الشخص الذي عطّل لأشهر وسنوات قبل أن يتنازل. وذلك نتيجة لسوء استخدام التوقيت في المبادرة السياسية. الكثير من العاملين في المجال السياسي، تعاكسهم الظروف فلا يتمكّنون من إحراز أيّ ربح أو مكسب. ولكن في الحدّ الأدنى يجيدون لعبة اختيار توقيت الخسارة. إلا سعد الحريري، لا يعرف كيف يربح، ولا يعرف كيف يخسر. ففي السياسة يكون اختيار الخسارة وتوقيتها والتنازل وأسبابه ونتيجته، فنّاً أيضاً.
ربما استاء الحريري من موقف عون، كما أنه لم يُعجَب بموقف ميقاتي الذي كان واضحاً منذ يوم الإثنين الفائت في رغبته السعي إلى عقد تسوية مع حزب الله وحركة أمل واختيار وزير المال الشيعي
وهي اللعبة التي يجيدها حزب الله وميشال عون بكلّ حرفية، بينما الحريري لم يفلح في الاستفادة من أيّ تجربة من المعموديات التي كانت كفيلة بجعله أحد أكبر عتاة السياسة في لبنان. خسر التوقيت، وكان التنازل مجانياً فخسر المبادرة كلّها. لامه الرئيس الفرنسي على فرض قواعد وصفها بـ”الطائفية”، وهو يقصد ترجمة المبادرة الفرنسية في مسألة المداورة بالحقائب. المشكلة أنّ الحريري هو من وضع الشرط وهو نفسه عاد وتراجع عنه. وعلى الرغم من أنّ السياسي لا يربح دوماً، لكن عند وقت الخسارة، يجب أن يعرف كيف يصوّر خسارته.
حتّى المبادرة الفرنسية، نجح حزب الله وميشال عون في تصوير الحريري معرقلاً لها، ووافقهما ماكرون، حين عاير الحريري ومعه رؤساء الحكومات السابقين بأنّه “أخطأ عندما أضاف معياراً طائفياً في توزيع الوزارات”، قاصداً تغريدة الحريري التي رفض فيها تخصيص وزارة المالية للشيعة، فصعد إلى الشجرة التي عاد وأنزله عنها ماكرون في الاتصال الذي أنجب “بيان التراجع” لاحقاً.
علماً أنّ شروط حزب الله ورئيس الجمهورية كانت بالغة الوضوح في تعارضها، إذ انضمّ عون إلى الحريري في رفضه “تخصيص وزارة لطائفة”. ثم تنازل الحريري بعكس كلّ ما حاول فعله في الأيام الخمسة عشرة الأولى. وعندما تنازل كرّس نفسه مجدّداً في خانة المعرقل والمعطّل، وأكثر من ذلك، في أنّه المهدّد للوحدة الوطنية ولقواعد تشكيل حكومات كان هو بنفسه قد أرساها سابقاً وأراد الانقلاب عليها.
رضخ للشروط. وعلى الرغم من ذلك، لم تتشكّل الحكومة وفشلت المبادرة. فمن أهان سياسته، هان هوانه، والطرف المقابل يطمع بالمزيد بما أنّ مسار التنازلات قد فُتح. والأمل الذي تنامى حول إمكانية استعادة التوازن في عملية تشكيل الحكومة وإعادتها إلى قواعدها سالمة، تبدّد بفعل خطوة الحريري، التي استدعت ردّاً سريعاً من مصادر القصر الجمهوري، بأنّ موقف عون كان يمكن البناء عليه كفصل أوّلي بين توجّه رئيس الجمهورية وبين حزب الله، خصوصاً أنّها المرّة الأولى التي يعلن فيها عون الالتزام بالدستور، ويرفض التنازل أمام الثنائي الشيعي.
ربما استاء الحريري من موقف عون، كما أنه لم يُعجَب بموقف ميقاتي الذي كان واضحاً منذ يوم الإثنين الفائت في رغبته السعي إلى عقد تسوية مع حزب الله وحركة أمل واختيار وزير المال الشيعي، وأنّه لا يريد أن يكون وليد جنبلاط هو الذي يتحدّث بالتسوية. وربما تخوّف الحريري من أن يُنجز اتفاقٌ لا يكون هو في صورة مقدّمته، فترك الجميع يقولون ما عندهم، وذهب مقدّماً التنازل الكبير ليصوّر نفسه المفتدي والحامي للتسوية. علماً أنه قبل أيام كان قد تلقّى اتصالاً من جنبلاط خلال وجود “البيك” في فرنسا، فنصحه جنبلاط بعدم رفع السقف كثيراً ثم تقديم تنازل يُظهره خاسراً لاحقاً، فأجاب الحريري بحزم: “لا أريد أن أسلّم لبنان للشيعة”.
الطريف أنّ ماكرون الذي وصف تغريدة الحريري بأنّها “طائفية”، عاد وأثنى على “اقتراحه” أن تكون المالية “للشيعة ولمرّة واحدة”، دون أن يعتبر هذا الاقتراح “طائفياً” بدوره
ما هي إلا أيام معدودة، حتى فعل العكس تماماً، تحت عنوان “لمرّة واحدة”. فإذا بمصطفى أديب يعتذر بدلاً من أن يضع تشكيلته على طاولة رئيس الجمهورية ليأخذ المسار الدستوري مجراه. تعليمة الاعتذار كانت مشتركة بين الحريري وميقاتي، تفهّماً لعدم توقيع عون على هذه التشكيلة وهرباً من مواجهة مع الثنائي الشيعي.
بالأمس جاء دور الحريري مع ماكرون. الرئيس الفرنسي حمّله مسؤولية أخذ مسار الحكومة إلى منحى “طائفي”، بفتحه البازار الطائفي في وقت لم يكن ضرورياً رفع السقوف المذهبية.
الطريف أنّ ماكرون الذي وصف تغريدة الحريري بأنّها “طائفية”، عاد وأثنى على “اقتراحه” أن تكون المالية “للشيعة ولمرّة واحدة”، دون أن يعتبر هذا الاقتراح “طائفياً” بدوره. في تزامن مع حفظ ماكرون “خطّ الرجعة” مع الإيرانيين خلال كلمته، وتحييده لهم عن اتهامات “التعطيل” و”الخونة”، كما وصف القادة السياسيين اللبنانيين، فيما كان يهدّد ويهاجم حزب الله في الكلمة نفسها.
قبل كلّ هذه التطوّرات، كان الحريري يستنجد بالدبلوماسية المصرية، الشريكة العربية الرئيسية في المبادرة الفرنسية، يستنجد بها طالباً وساطتها لتخفيف الضغط الفرنسي عليه للموافقة على ما تبنّاه في اقتراحه لاحقاً. فإذا بالقاهرة، وفي خضم اتصالاتها بباريس، تسمع بيان الحريري من التلفزيون اللبناني. ويخسر على الجهتين المصرية والفرنسية. “للحديث صلة”.