يتمّ اليوم استحضار الجوع بشكل إخضاعي للناس. ما يقال لهم: كلّ حقكم علينا ألا تموتوا جوعاً بشكل واسع النطاق ونافر. أما” القلّة”، أو فقر الحال المحتبسة بين جدران منازلكم، فهذا قدركم عليكم أن تتكيّفوا معه. والحال أنّ العدد الاكبر من الناس بمنأى من الجوع، ولو أنّ نوعية غذائه لحق به تأثير تراجعي وخيم، متفاوت بينهم. أقلية من الناس مداهمة بالفعل بالجوع الفيزيائي. هؤلاء، ما يقال لهم إنّ نظام الإعاشات سيكفل لكم عدم الموت جوعاً، فتصيروا قاعدة لنظام الاحتضار اللبناني المستدام، في مقابل أكياس الطحين والبرغل. هذا طمس لواقعة أساسية، وهي أنّ العملة الوطنية لم تتراجع فقط ستة أو سبعة أضعاف قيمتها الرسمية في مقابل الدولار. فوق هذا فهي لم تعد عملة إلا بمعنى تقريبي، “من قريبه”. صارت عملة غذائية فقط، أو تكاد: بمليون ليرة لبنانية، ورغم الغلاء الجنوني للسلع، يمكنك أن تشتري مأكولات تقشّفية لشهر. في نهاية الأمر المليون ليرة تساوي 500 ربطة خبز حالياً. أما عندما يتعلّق الأمر بغير الأكل، فستكون المليون ليرة مئة دولار أو اكثر قليلاً، ولا يمكن في كلّ الاحوال أن تدّخرها لأسبوعين متتاليين، إلا إن “ثبّتها” ببيعها وشراء دولارات. ما يقال للناس هو أنّ كلّ ما لديكم بالليرة اللبنانية لم يعد صالحاً إلا لشراء الأطعمة. هذا وجه أساسي من الكارثة.
إقرأ أيضاً: ما العمل الآن؟ أوقف لعب القمار يا صاح …
الانطلاق من الجوع أو من الفقر هو خضوع للكابوس الجاثم. هذا بخلاف الانطلاق من ثلاثية العمل والحرية والحياة. فالمشكلة ليست في أنّ النظام يتّجه بنا نحو المجاعة، بل المشكلة أنّه يتجه بنا نحو الأكل فقط، وتتحوّل معه الليرة إلى عملة للأكل فقط. لأجل هذا، الإفلات من الدوّامة الخضوعية المنسوجة حول مفردة “الجوع” بات ضرورياً. حيواتنا تساوي أكثر من سلّة غذائية. المشكلة مع الانظمة القائمة على الأرض اللبنانية أنّها لم تعد تطاق من ناحية الحقّ بالعمل. الحق بنيل أجر العمل أو تعويض الصرف. الحق بنيل المدخر من أجور عمل سابقة. الحق في سياسة ضريبية مختلفة كلياً عن كلّ المأثور الكارثي. الحق في سياسة تشجيعية للاستثمارات الصغيرة والمتوسطة. وقبل كل شيء التنفس بحرية وبكرامة ومن دون تمييز وافتئات على الناس، والشعور بقيمة الحياة. “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”: هنا نفهم القيمة الاجتماعية الصميمة لذلك، لأنه كثيراً ما أسيء فهم هذه المقولة، كما لو كانت تجرّداً عن الاجتماعي.
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا بالخبز وحده يحيا الناس. الخبز المحيي لهم هو خبز عملهم المحرّر. خبز إعادة الوصل بين ما هو اجتماعي وبين ما هو سياسي، وخبز إعادة ربط السياسة، حين تكتسب مضموناً اجتماعياً فعلياً، براهنية الخروج من الشقاء، وتحقيق السعادة.
الانطلاق من الجوع أو من الفقر هو خضوع للكابوس الجاثم. هذا بخلاف الانطلاق من ثلاثية العمل والحرية والحياة
“الاجتماعي” هو ما غاب مطوّلاً عن خطاب 14 آذار، ولم يحضر في خطاب 8 آذار إلا لماماً، وكـ”فزّاعة” لا تلبث أن توضع في وجه الغريم الداخلي حتى تسحب من التداول لأنّها تنذر بارتداد عواقبها هناك وهناك، على مقلبي خط الانقسام.
غياب “الاجتماعي” كان غياباً لأيّ استشعار بأنّ ما يقوم مقام العقد الاجتماعي، منذ نهاية الحرب في لبنان، أوشك على النضوب تماماً، وأنّه في ظل ضمور، بل غياب العقد الاجتماعي، فلا نسق دستورياً يمكن انتظار استتبابه، ولا حاكمية للقانون يمكنها أن تساوي بين المواطنين.
كذلك كان تغييب “الاجتماعي” إعداماً لأيّ فرصة في تشكيل قنوات التفاوض الاجتماعي، وبالتالي جعل التنازعية الاجتماعية، الموجودة حكماً في أيّ مجتمع، من دون قنوات تفاوض بين المجموعات والقوى ذات الحيثية الاقتصادية الاجتماعية المختلفة.
14 آذار أقنعت نفسها بأن كلّ هذا تفاصيل مؤجلة لزمن ما بعد حلّ القضايا الكبرى “السيادية”. كما لو كانت السيادة معلّقة في الفضاء، وفي غنى عن حامل اجتماعي للوائها، أو كما لو أنّ هذا الحامل الاجتماعي محمول على التفاني من قليل ماله، لصالح ما تكتنزه الحيتان والحواشي. كانت النتيجة مأسوية وملهاتية في آنٍ لكلّ هذا الطلاق بين الاجتماعي وبين “السيادي”.
في المقابل، إذ أطلّت إرهاصة الانفجار الاجتماعي من أحداث حي السلّم، فهي أفهمت قوى 8 آذار أيضاً بأنّ ورقة الحرمان هذه لا يمكن أن تبقى مجرّد ورقة تستحضر كلما لزم الأمر حيال 14 آذار، ثم تسحب بخفر ويسر من التداول.
المفجّر الأساسي لانتفاضة 17 تشرين كان اجتماعياً. ووجه ذلك من على يمينه ومن على يساره. فلول 14 آذار، والفلول المحاكية لها من مجتمع مدني يستعير شعارات 14 نفسها زائد مكافحة الفساد وناقص زعماء 14 آذار، سارعت من بعد تردّد في البداية، إلى المبالغة في “احتضان” الانتفاضة ومحاولة تحجيم “الاجتماعي” فيها قدر الإمكان. فإما اختزل الاجتماعي في عداد رزمة “المطالب المعيشية”، وإما اختزل في باب “مكافحة الفساد”، أو أبقي فقط في خانة التهديف على سلاح الحزب ودوره في مفاقمة الأوضاع الاجتماعية. أما 8 آذار فتمكّنت، ليس فوراً، لكن ليس بعد وقت طويل، من إبعاد الجمهور المنحاز إلى طروحها الأساسية، عن مناخ الانتفاضة، وهي بدورها تراوح خطابها بين لوم الانتفاضة لظنّها بأولوية “الاجتماعي” على مواجهة الاستعمار والصهيونية، وبين التشكّي من أنّ الانتفاضة فقدت طابعها الاجتماعي الشعبي سريعاً.
الاتساع الجماهيري للانتفاضة أدّى في الواقع إلى شمولها لأوساط عديدة، لكن أكثر من نزل إلى الساحات كانوا من محدودي الدخل، الذين يعيشون من بيع قوة عملهم، ويعاني قسم كبير منهم من بطالة جزئية أو كلية. في الوقت نفسه، وفي ظلّ السائد أيديولوجياً وإعلامياً في البلد، وجدت الانتفاضة نفسها بلا عمل بعد نجاحها في الإطاحة بالحكومة. وجدت نفسها في “عرس وطني” مبهم. فمن شعار “كلن يعني كلن”، لم يُصَغ مثلاً شعارٌ عمليٌ من نوع “مواصلة الكفاح الشعبي حتى تنحّي رئيسي الجمهورية والنواب من بعد رئيس الحكومة”. بدلاً من هذا، انساق رهط الناشطين إلى شعار أبله، هو شعار “حكومة تكنوقراطية مستقلة”، والأدهى بعد، بـ”صلاحيات تشريعية”. أي في الوقت نفسه حكومة تمثل أمام البرلمان الحالي، وتطلب منه الثقة، وتتوعّده بالانتخابات المبكرة، وتطلب منه أن ينقل صلاحياته التشريعية إليها.
هذه السخافة في الطرح تأتي في مقام الخيانة. الخيانة لوثبة شعب، بعمق اجتماعي طبقي أكيد. وثبة كان من الأجدى بعد استقالة رئيس الحكومة أن تنتقل إلى التحريك الشعبي التثويري باتجاه الرئاستين الأخريين: هل كانوا يتخيّلون حكومة تكنوقراطية مشتهاة، ما بين مطرقة ميشال عون وسندان نبيه بري؟
الاتساع الجماهيري للانتفاضة أدّى في الواقع إلى شمولها لأوساط عديدة، لكن أكثر من نزل إلى الساحات كانوا من محدودي الدخل
تجلّى الخوف من التثوير في الاتجاه السياسي، من خلال عدم طرح تنحية عون وبري، كما الخوف من التثوير في الاتجاه الاجتماعي، من خلال اختزال كلّ مشكلة الانهيار المالي في الفساد، واجتناب أيّ تطرّق للتفاوت المريع في الثروة وراهنية الخوض في الأسس الممكنة لدوران اقتصادي من نوع جديد يتضمّن مقداراً تتابعياً من إعادة توزيع الثروة.
والمشكلة لم تكن في هذا الخوف المزدوج، قدر ما كانت في المكابرة عليه، وإعطاء هذه المكابرة اسماً طاووسياً لها: “ثورة”. وبالتوازي، بعد استقالة سعد الحريري، لم يعد مجتمع الناشطين يفقه الثورة إلا كعرس وطني من أجل حكومة تكنوقراط واستعادة الأموال المنهوبة. وعلى هامشها، ثمة هنا من يمنّي النفس بتثويرها في الاتجاه الصراعي الطبقي، وهناك من يمنّي النفس بتثويرها في مواجهة سلاح “حزب الله”، فيما شباب الحزب والحركة ما عادوا يفرقون بين هذين الاتجاهين.
الانتفاضات والثورات هي أيضاً وقبل كلّ شيء أعياد واحتفاليات، وهذا ما بيّنه بشكل حصيف الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر في دراسته لتجربة كومونة باريس بوصفها عيداً دام الاحتفال فيه سبعين يوماً، حتّى وقعت المجزرة بأهل المدينة الثائرين. وعليه، ليس ما يعاب هو الاسترسال في الاحتفالية، بل شكل هذه الاحتفالية نفسها، والمضمون المسكوب في هذا الشكل، أو الفحوى. الأغاني التي ظلّت تذاع هنا لم تكن بتفصيل. كانت إعداماً لكلّ حسّ شعبي اجتماعي في الانتفاضة. “بيكفي أنّك لبناني” و”حصرم بعين الكل”. فرضوا على المدّ الشعبي احتفالية معادية للحسّ الشعبي الاجتماعي. كذلك الندوات التي أقيمت على هامش التحرّك المركزي في وسط البلد، فهي لاكت عناوين المنظمات غير الحكومية بلا رحمة. إذ ليس على أجندة هذه المنظمات لا إعادة توزيع ثروة، ولا مصادرة أملاك، ولا مطالبة مركّزة برحيل الرؤساء. وهي إذ تصرّ على مسمّى “الثورة”، تفزع من طرح أيّ تصوّر عن دستور جديد. ثورة بلا دستور جديد، ثورة بلا سلطة تأسيسية: كانت هذه نكبة للعقل والقلب معاً.
المفارقة أنه بعد كلّ هذا، فإنّ هذا الرهط الذي لا يفهم الثورة إلا كثورة معانٍ غرائبية جديدة تحدث في داخله ولا يمكنها وصف الأنام الا بركيك الكلام، (الأنام هو جميع ما علي الأرض) أخذ يمنّي النفس بأنه عندما “ستجوع الناس ستثور”، وإن هي إلا أشهر معدودات وندخل في الموجة الثانية العرمرمية التي “تشيل ما تخلّي”.
الانتفاضات والثورات هي أيضاً وقبل كلّ شيء أعياد واحتفاليات، وهذا ما بيّنه بشكل حصيف الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر
لكنّ فكرة “بس تجوع الناس بتثور” تورّم للوهم. في المطلق، مقولات كالجوع والفقر طيّعة للأدلجة الإخضاعية للبشر، لصالح رأس المال أو لصالح الاستبداد، أو لكلٍّ من هذا وذاك.