يصعب الفصل بين كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن “التدخّل الإيراني” الذي يلعب دوراً، مع تدخّلات أخرى، في منع أيّ تسوية رئاسيّة في لبنان من جهة، وزيادة الاهتمام الإيراني بالسيطرة الكاملة على البلد من جهة أخرى.
ثمّة شعور فرنسي عبّر عنه ماكرون في كلمته أمام السفراء الفرنسيين في العالم بأنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” متمسّكة بالورقة اللبنانيّة أكثر من أيّ وقت ولن تقدّم أيّ تنازل من أيّ نوع على الصعيد اللبناني. واضحٌ أنّ الكيل طفح عند المتعاطين في الشأن اللبناني في باريس في وقت ليس ما يشير إلى أنّ إيران مستعدّة للسماح بأيّ وجود لهامش فرنسي في لبنان. يؤكّد ذلك نيّة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان المجيء إلى بيروت قبل عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى العاصمة اللبنانيّة.
ما يجعل إيران تكشّر عن أنيابها اللبنانية وتسعى إلى إفهام فرنسا أن لا مكان لدور لها في لبنان، إحساسٌ عميقٌ في طهران بأنّ سوريا يمكن أن تفلت من يد “الجمهوريّة الإسلاميّة”. تكتشف إيران أنّ لبنان، الواقع تحت سيطرة الحزب، يشكّل ضمانة حقيقية لها وورقة ثابتة أكثر بكثير من سوريا حيث هبّت رياح الثورة الشعبية مجدّداً.
يصعب الفصل بين كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن “التدخّل الإيراني” الذي يلعب دوراً، مع تدخّلات أخرى، في منع أيّ تسوية رئاسيّة في لبنان من جهة، وزيادة الاهتمام الإيراني بالسيطرة الكاملة على البلد من جهة أخرى
فقدان “العلويين والدروز”
فقد هبّت مجدّداً رياح الثورة التي اندلعت في آذار 2011 بشكل مختلف من السويداء ذات الأكثريّة الدرزية ومن الساحل السوري حيث توجد كثافة علويّة. هناك أقلّيتان ترفضان بدورهما، لأسباب خاصّة بكلٍّ منهما، استمرار النظام السوري القائم منذ عام 1970. يعني ذلك، بكلّ بساطة، أنّ النظام الذي كان في مواجهة دائمة مع السُّنّة، الذين كانوا يمثّلون نسبة 75 في المئة من السكّان، فقدَ أحد المبرّرات الأساسية لوجوده. فقدَ، مع انتفاضة الدروز والعلويّين، في ما يمكن وصفه بـ”الثورة السوريّة الثانية”، حلفَ الأقلّيات الذي عمل من أجله على أن يضمّ العلويين والمسيحيين والدروز والشيعة (في سوريا ولبنان).
استطاع النظام السوري، في الماضي، ضبط العلويين وإقناعهم بأن لا وجود لهم من دونه… وإلّا فسيعودون مواطنين من الدرجة الثانية. ألغى المسيحيين، الذين كانوا يشكّلون نسبة 12 في المئة من سكّان سوريا، وذلك على مراحل. أمّا الدروز فصاروا مهمّشين وعليهم الاكتفاء بأدوار أقلّ من ثانوية على الصعيدين السياسي والأمنيّ. لم يعُد في الجيش السوري ضبّاط بارزون من الدروز كما كانت عليه الحال في الماضي القريب في خمسينيات القرن الماضي وستّينيّاته.
أيضاً فإنّ التطوّرات السوريّة تُقلق إيران، خصوصاً مع انفراط حلف الأقلّيات الذي ساعدت “الجمهوريّة الإسلاميّة” النظام في دمشق على تكريسه، ليس في سوريا وحدها، بل في لبنان أيضاً… من خلال الربط بين البلدين وإلغاء الحدود بينهما. قام الحلف الذي بين الحزب و”التيّار الوطني الحرّ” بدفع إيراني ومباركة النظام السوري. عكَس وصول ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهوريّة رغبة واضحة في تكريس واقع معيّن لا عودة عنه في لبنان، أقلّه في المدى المنظور. يتمثّل هذا الواقع في أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية الماروني خيار إيراني صرف لا أكثر.
أكثر من أيّ وقت، ستُبدي إيران تشدّداً في لبنان. هذا ما يفسّر استدعاء جبران باسيل إلى بيت الطاعة عبر إفهامه أنّ الخروج من حلف مع الحزب، بعد الاستفادة إلى أبعد حدود من معادلة “السلاح يحمي الفساد”، ليس بالسهولة التي يعتقدها. ما تزال لدى الحزب حاجة إلى غطاء مسيحي لسلاحه. على “التيار الوطني الحرّ” توفير هذا الغطاء بالتي هي أحسن.
تواجه “الجمهوريّة الإسلاميّة” وضعاً صعباً ومعقّداً في سوريا التي استثمرت فيها مليارات الدولارات من أجل تغيير التركيبة الديمغرافية للبلد نهائياً. لم تفشل في تقليص حجم الوجود السنّيّ بشكل حاسم فحسب، بل واجهت أيضاً مشكلة الأقلّيات الذين كانوا يمثّلون رهان النظام و”الحرس الثوري” في آن.
ليس أمام إيران، من أجل تعويض فشلها السوري الذي يتوّجه إسقاط الثورة السوريّة الثانية لحلف الأقلّيات، سوى التركيز على لبنان وخنقه من كلّ الجهات وعلى كلّ المستويات
محاصرة الدروز… خوفاً من السنّة
واضح أنّ النظام في وضع لا يُحسد عليه. لا يستطيع دخول مواجهة مع الدروز بسبب حساسيّة منطقة السويداء، جغرافياً، والخوف من تمدّد الانتفاضة الشعبية إلى درعا ذات الأكثريّة السنّيّة. لذلك يحاول بشّار الأسد حالياً احتواء الوضع في السويداء وفرض حصار على الدروز في الوقت ذاته. لكن ماذا لو اختار هؤلاء، من أجل فكّ الحصار، التواصل الجغرافي مع الأردن الذي لا يُخفي خيبته من نظام بشّار الأسد. لم يستطِع الأسد الابن التزام أيّ بند من تعهّداته العربيّة. لم يحترم أيّ تعهّد قطعه، لا في شأن تهريب السلاح إلى الأردن ولا في شأن وقف تصنيع المخدّرات، ولا سيّما الكبتاغون، وتهريبها عبر المملكة الهاشميّة إلى دول الخليج العربي خصوصاً.
لا يمكن الاستهانة بأحداث السويداء ولا بما يشهده الساحل السوري حيث يصعب على النظام مواجهة العائلات العلويّة التي تعاني من الفوضى السائدة والتي يستفيد منها “شبّيحة” النظام إلى أبعد حدود. يحدث ذلك في وقت يفتقد عدد كبير من العلويين المساعدات التي كان يقدّمها رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام السوري الذي ورث عن والده محمّد مخلوف إدارة جمعيات معيّنة. كانت مهمّة تلك الجمعيّات، منذ أيّام حافظ الأسد، تقديم دعم للعلويين بغية المحافظة على ولائهم للنظام!
إقرأ أيضاً: إيران: خدعة الاعتدال مقابل التشدّد
ليس أمام إيران، من أجل تعويض فشلها السوري الذي يتوّجه إسقاط الثورة السوريّة الثانية لحلف الأقلّيات، سوى التركيز على لبنان وخنقه من كلّ الجهات وعلى كلّ المستويات. ليس الرئيس الفرنسي وحده الذي بات يعرف ذلك، بل إنّ هذا الشعور ينتاب كلّ لبناني يعرف ولو قليلاً عمّا يدور في المنطقة التي تبدو مقبلة على تحوّلات كبيرة قبل نهاية السنة الحالية. قد يكون عمل الأميركيين على ضبط الحدود بين العراق وسوريا جزءاً من هذه التحوّلات…