“التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد زاد الوضع في سوريا سوءاً، وجعل البلد أقلّ استقراراً. بعدما كان من المفترض أن يكون مشروطاً بتقديم الأسد تنازلات، حطّم أيّ أمل في دبلوماسية ذات مغزى تهدف إلى حلّ حقيقي للأزمة السورية”. هذا ما توصل إليه مدير برنامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرّف في معهد الشرق الأوسط، تشارلز ليستر، الذي كتب في مجلّة “فورين بوليسي” الأميركية مقالاً مطوّلاً حذّر فيه من أنّ سوريا الآن تدخل فترة مظلمة للغاية من عدم اليقين، مع انهيار الاقتصاد وارتفاع مستويات العنف وتصاعد التوتّرات الجيوسياسية. واعتبر في إشارة إلى اجتماع اللجنة العربية المتوقّع مع بداية شهر أيلول المقبل مع انعقاد الجامعة على مستوى وزراء خارجية الدول العربية أنّ “أيّ خطط للالتقاء وسط مثل هذه التطوّرات المأساوية لمتابعة خطوات الحلّ العربي بخصوص سوريا ستكون بمنزلة مغامرة… فالأسد لا يريد الانخراط بأيّ جهد سياسي لحلّ الأزمة في البلاد”.
استبعد ليستر أن تسعى دول خارج المنطقة إلى تطبيع العلاقات مع الأسد، “فأوروبا لا تظهر أيّ علامة على تأييد هذا القرار، ولا حتى الولايات المتحدة، بل بات البعض داخل الإدارة ينظر إلى أزمات الشرق الأوسط مثل الأزمة السورية على أنّها غير قابلة للحلّ بشكل أساسي، وهامشيّة لمصالح الولايات المتحدة، ولا تستحقّ الجهود المبذولة. وعرض للتطوّرات التي أعقبت إعادة الأسد إلى الحظيرة العربية في 19 أيار الماضي خلال قمّة جامعة الدول العربية بهدف أساسي مفترض هو الرغبة في تحقيق الاستقرار في سوريا، كجزء لا يتجزّأ ممّا يسمّى سياسة خفض التصعيد في جميع أنحاء المنطقة، وأكّد أنّ إعادة الارتباط بالأسد أتت بنتائج عكسية، وأنّ العواقب واضحة ويراها الجميع وهي:
التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد زاد الوضع في سوريا سوءاً، وجعل البلد أقلّ استقراراً. بعدما كان من المفترض أن يكون مشروطاً بتقديم الأسد تنازلات
لا تنازلات
لأكثر من عقد، دعم المجتمع الدولي جهود المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء سوريا بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، لتلبية احتياجات ملايين الأشخاص. اليوم يعيش الـ4.5 ملايين سوري الأكثر ضعفاً في منطقة صغيرة من شمال غرب سوريا تعدّ موطناً لأشدّ أزمة إنسانية في العالم. في 11 تموز، استخدمت روسيا حقّ النقض ضدّ تمديد آليّة الأمم المتحدة التي مضى عليها 9 سنوات لتقديم المساعدات عبر الحدود إلى الشمال الغربي، وهو ما أدّى إلى قطع شريان الحياة الحيوي، ودفع المنطقة إلى حالة عميقة وغير مسبوقة من عدم اليقين.
بعد أيام من استخدام روسيا لحقّ النقض، أعلن نظام الأسد عرضاً لإيصال المساعدات إلى المنطقة، لكنّه أضاف مجموعة من الشروط جعلت هذا العرض مستحيل التنفيذ عمليّاً. وفي ظلّ الوضع الراهن، لا توجد آليّة لتقديم المساعدة من دون عوائق إلى شمال غرب سوريا، ولا توجد جهود جادّة لإنشاء واحدة. لقد تبدّدت فكرة أنّ الدخول في حوار مع الأسد سيؤدّي إلى تنازلات.
لا وقف لتجارة الكبتاغون
كانت إحدى القضايا التي كانت السعودية والأردن أكثر قلقاً بشأنها هي تجارة الكبتاغون، وهو عقار أمفيتامين غير قانوني يُنتج على نطاق صناعي من قبل شخصيات بارزة في نظام الأسد. بين عامَي 2016 و2022، تمّ ضبط أكثر من مليار حبّة كبتاغون سوريّة الصنع في جميع أنحاء العالم، وضُبط معظمها في الخليج العربي. سعت دول المنطقة إلى إقناع نظام الأسد بوقف هذه التجارة. لكن بالنظر إلى الدور المركزي للنظام فيها، إضافة إلى هوامش الربح المذهلة التي تنطوي عليها هذه التجارة، إذ يمكن أن تكلّف حبّة واحدة من الكبتاغون عدّة سنتات لإنتاجها لكنّها تباع في الخليج مقابل 20 دولاراً، فإنّ وعد دمشق للحكومات الإقليمية بأنّها ستضع حدّاً لتجارة الكبتاغون مثير للضحك. وأخيراً استقبل الأردن اثنين من أكثر مسؤولي النظام شهرةً وخضوعاً لعقوبات دولية، وزير دفاع الأسد ورئيس المخابرات، في عمّان لمناقشة مكافحة تهريب المخدّرات، وبعد يوم واحد فقط اضطرّ الأردن إلى إسقاط طائرة مسيّرة تحمل مخدّرات من سوريا.
في غضون ذلك، تكشّفت البيانات التي جُمعت من خلال رصد المضبوطات الإقليمية عن مصادرة ما قيمته مليار دولار من الكبتاغون السوري الصنع في الأشهر الثلاثة الماضية في كلّ من السعودية والإمارات وسلطنة عمان والكويت والعراق وتركيا والأردن. والأهمّ من ذلك، اكتشفت السلطات الألمانية أخيراً منشأة لإنتاج الكبتاغون يديرها سوريون في جنوب ألمانيا مع نحو 20 مليون دولار من الحبوب و2.5 طن من السلائف الكيميائية.
لا عودة للّاجئين
تأمل الدول الإقليمية أيضاً أن تؤدّي إعادة الارتباط بنظام الأسد إلى فتح طريق عودة اللاجئين إلى سوريا. فوجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة، 3.6 ملايين في تركيا، و1.5 مليون في لبنان، و700 ألف في الأردن، يفرض أعباء جسيمة على نحو متزايد على البلدان المضيفة. ومع ذلك، لا يمكن تفسير المنطق وراء الآمال الإقليمية. ترتبط جميع الأسباب الأكثر أهميّة لرفض اللاجئين السوريين العودة بحكم النظام. وقد كشف استطلاع جديد للأمم المتحدة بشأن اللاجئين السوريين صدر بعد أيام قليلة من مشاركة الأسد في قمّة جامعة الدول العربية في مدينة جدّة السعودية، أنّ 1% فقط منهم يفكّرون في العودة في العام المقبل… بل إنّ اعتراضهم على ما يجري دفعهم إلى أن يخوضوا رحلات محفوفة بالمخاطر نحو أوروبا بمعدّل ارتفع بنسبة 150 في المئة على الأقلّ عمّا كان عليه في سنة 2021، في وقت تسنّ فيه الدول المضيفة سياسات لإجبار اللاجئين على المغادرة، ويعلن الأردن أنّه سيوقف في وقت قريب الدعم المالي المقدَّم لهم.
إقرأ أيضاً: السّعوديّة: المبادرة العربيّة مقابل التطبيع
بل انهيار للاقتصاد وتصاعد للعنف
في الأشهر الثلاثة الماضية، انهار الاقتصاد السوري بشكل سريع، إذ فقدت الليرة السورية 77 في المئة من قيمتها. بعد عودة الأسد إلى الحظيرة الإقليمية والاستفادة من إعفاءات العقوبات الأميركية والأوروبية في أعقاب زلزال شباط، ينبغي ألّا يكون اقتصاد الأسد بهذا الحال، لكنّ المشكلة في النظام بحدّ ذاته. فقد أثبت أنّ الفساد متفشٍّ فيه وأنّه غير كفء ومدفوعٌ بالجشع بدلاً من الصالح العامّ. لقد أدّى سوء الإدارة المالية وإعطاء الأولوية لتجارة المخدّرات غير المشروعة إلى انهيار الاقتصاد السوري، ربّما إلى الأبد.
بينما تتوق المنطقة إلى سوريا مستقرّة، قدّمت الأشهر الثلاثة الماضية صورة مختلفة تماماً، صورة تصعيد أعمال العنف.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا