الترسيم البرّيّ: هل حان وقت التنازل السوري؟

مدة القراءة 8 د


يروي أحد النواب اللبنانيين السابقين أنّ النائب الأميركي اللبناني الأصل داريل عيسى نقل أثناء إحدى زياراته المتكرّرة للبلد، قبل زهاء خمس سنوات، عرضاً من إسرائيل يدعو إلى ترسيم الحدود البرّية بينها وبين لبنان. كان عيسى جاء لتوّه من زيارة لإسرائيل مع وفد نيابي أميركي في إطار الزيارات الاستكشافية التي يقوم بها رجال الكونغرس الأميركي.

عرض داريل عيسى… والنقاط السبع الباقية

التقى عيسى عدداً من نظرائه اللبنانيين أعضاء لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية، في حفل استقبال أقامته السفارة الأميركية في لبنان. وفي حديثه مع بعض هؤلاء قال لهم إنّ إسرائيل تقدّم هذا العرض لأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها بنيامين نتانياهو يعتقد أنّ إنهاء الإشكالات الحدودية البرّية، التي تشمل انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا المحتلّة وتلال كفرشوبا، يُفقد الحزب سرديّته بأنّه يحتفظ بسلاحه لأنّ هناك أراضي لبنانية محتلّة.

يروي أحد النواب اللبنانيين السابقين أنّ النائب الأميركي اللبناني الأصل داريل عيسى نقل أثناء إحدى زياراته المتكرّرة للبلد، قبل زهاء خمس سنوات، عرضاً من إسرائيل يدعو إلى ترسيم الحدود البرّية بينها وبين لبنان

يضيف النائب السابق أنّ داريل عيسى كان يتحدّث إلى النواب الحاضرين وطلب إليهم نقل رغبة نتانياهو إلى المسؤولين اللبنانيين ورئيس البرلمان نبيه برّي. إذ كان بين هؤلاء أحد أعضاء كتلة الرئيس برّي النيابية.

يتابع النائب صاحب الرواية أنّ ما حصل على هذا الصعيد هو متابعة الجيش اللبناني (منذ عام 2017) حلّ الإشكالات الحدودية البرّية مع فريق متخصّص من “اليونيفيل” لبتّ تحفّظات لبنان على 13 نقطة في الخط الأزرق الذي رُسم عام 2000 ممثّلاً خطّ الانسحاب الإسرائيلي لا الخطّ الحدودي الرسمي. وكما بات معروفاً، أُزيلت تحفّظات لبنان على 6 نقاط ، وبقيت سبع لم تتمّ معالجة الإشكالات في شأنها.

نتانياهو غيره قبل 5 سنوات؟

بصرف النظر عن إعلان الأمين العام للحزب الأسبوع الماضي أنّ الحدود مرسّمة وليست بحاجة إلى ترسيم، وعمّا قاله المدير العامّ السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي كُلّف سابقاً في هذا الموضوع في حديث تلفزيوني أمس الأول أبدى فيه استعداده للعب دور جديد قائلاً إنّ المطلوب “تثبيت الحدود” التي يعتبرها لبنان مرسّمة، فإنّ لطلب لبنان رسمياً إحياء التفاوض على ما بقي من نقاط حدودية لإزالة الإشكالات عليها، دلالةً سياسيةً مهمّةً، في ظلّ ظروف إقليمية دقيقة.

يأتي العرض الجديد هذه المرّة من لبنان، بدل إسرائيل. وكان لافتاً قول اللواء إبراهيم في حديثه التلفزيوني أمس الأول إنّه بحث اقتراحات في شأن الحدود البرّية مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا: “استمعت السفيرة إلى أفكاري واقتراحي في هذا الشأن، الذي هو في عهدة المعنيين في السلطات اللبنانية، وفي عهدة السفيرة شيا. وقد يكون هذا الاقتراح هو الحلّ الذي سيؤدّي إلى تخفيف التوتّر في الجنوب وحلّ المعضلة”.

لكن يبقى السؤال التالي: ما مدى استعداد نتانياهو في الظروف الصعبة التي يمرّ فيها ائتلافه الحاكم، وفي ظلّ التظاهرات الشعبية العارمة ضدّ طلب حكومته إجراء تعديلات على صلاحيات السلطة القضائية، لتقديم تنازلات تقضي بالتراجع عن قضم إسرائيل مساحات ولو صغيرة من النقاط السبع الباقية التي يعترض عليها لبنان؟ وهناك أسئلة شائكة عن مدى القدرة على إنجاز هذا الملفّ في ظلّ تحريك متبادل للحوادث الأمنيّة الحدودية بين الجيش الإسرائيلي والحزب، وهي متشعّبة كالآتي:

هل حان وقت الاعتراف السوريّ الرسميّ؟

– أوّلاً: الأسئلة السياسية، خصوصاً أنّ العارفين ببواطن الأمور يتعاطون مع الطلب اللبناني على أنّه من الحزب وإيران، بالتعريف السياسي للكلمة، مثلما كان الحال حين أجازت طهران الترسيم البحري. ويقول أحد كبار المسؤولين اللبنانيين السابقين في هذا المجال إنّ الحزب وإيران لم يحصلا من الولايات المتحدة على مقابل للاتفاق البحري، وإنّ تحريك الجبهة اللبنانية يهدف إلى دفع واشنطن إلى مبادلتهما الأثمان في شأن عناوين كثيرة، منها ما يهمّ طهران مباشرة ومنها ما يتعلّق بدور الحزب في لبنان. وفي وقت تغلب فيه التكهّنات على الأجوبة المفترضة عن الأسئلة في هذا الصدد، فإنّ من بينها يمكن ذكر الآتي:

– هل حان وقت الحصول على اعتراف سوري رسمي بالجزء اللبناني من مزارع شبعا المحتلّة، بعد 17 سنة من التلكّؤ السوري في تقديم وثيقة رسمية تسلِّم بملكيّة لبنان لها؟ الحزب كان وعد هيئة الحوار الوطني عام 2006 بالحصول على هذا الاعتراف من دون نتيجة. بل اكتفت دمشق بتصريحات صحافية بأنّ المزارع لبنانية، من دون تقديم وثائق رسمية تبرّر للأمم المتحدة أن تعتبرها جزءاً من القرار الدولي 425 المتعلّق بلبنان لا القرار 242. فإذا كانت دمشق غير مستعدّة لتسليم هذه الورقة الآن، والحزب لن يُحرجها، أفلا تبدو المطالبة اللبنانية بتثبيت الحدود اللبنانية مناورة غير قابلة للتنفيذ؟

– هل توصّل الجانبان الإيراني والسوري إلى قناعة بالإقلاع عن استخدام ورقة المزارع لتبرير وجود خطّ احتكاك حدودي يسوّغ للحزب احتفاظه بسلاحه؟ وفي هذا المجال يذكّر دبلوماسي أجنبي منخرط في تاريخ التفاوض على مسألة الترسيم في مزارع شبعا بأنّ الأمين العام للأمم المتحدة طلب عام 2006 من كلّ من إسرائيل وسوريا ولبنان تقديم خرائط في شأنها لمعالجة إشكاليّتها فتقدّم لبنان بهذه الخرائط بينما امتنعت إسرائيل وسوريا عن تقديمها.

يقول أحد كبار المسؤولين اللبنانيين السابقين في هذا المجال إنّ الحزب وإيران لم يحصلا من الولايات المتحدة على مقابل للاتفاق البحري، وإنّ تحريك الجبهة اللبنانية يهدف إلى دفع واشنطن إلى مبادلتهما الأثمان في شأن عناوين كثيرة

عن ارتباط حجّة السلاح بالترسيم البرّيّ

– هل يعقل أن يقدّم الحزب لنتانياهو وواشنطن خدمة مجّانية تتيح لهما طرح الحجّة القائمة على أنّ إنهاء النزاع الحدودي يزيل مبرّر احتفاظه بالسلاح؟

– هل يمكن أن تنجز السلطة اللبنانية اتفاقاً حدودياً في ظلّ الفراغ الرئاسي، خصوصاً أنّ التوقيع على المعاهدات الخارجية من صلاحيات الرئاسة الأولى؟ وقد حرص الرئيس السابق العماد ميشال عون على تولّي مسؤولية التفاوض على الحدود البحرية. وهناك حساسية مسيحية عالية حيال قيام الحكومة الحالية بقرارات وخطوات هي من صلاحيات الرئاسة.

– أحد الدبلوماسيين المحنّكين سأل في معرض الإيحاء: هل تغطية الحزب للتفاوض على الحدود البرّية تأتي ضمن خطوة ذكيّة لصرف الأنظار عن الفراغ الرئاسي من جهة، وللقول من جهة أخرى إنّ تشدّده على الحدود حيال التصرّفات الإسرائيلية بنصب خيمتين وإطلاق صاروخ أطلق التفاوض على الحدود البرّية وإنّ سلاحه حافظ على حقوق لبنان البرّيّة؟ وفي هذه الحال ربّما يكون طرح الترسيم خطوة ذكيّة.

الـB1 والأبعاد الأمنيّة والبحريّة

– ثانياً: تبرز الأسئلة التقنيّة الآتية نظراً إلى أنّ ما قضمته إسرائيل له أبعاد طوبوغرافية وأمنيّة، ويمكن ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وسط معلومات عن أنّ الدائرة الطوبوغرافية في الجيش هيّأت خرائطها للتفاوض:

– إنّ نقطة الـB1 الساحلية في الناقورة تُركت معلّقة أثناء التفاوض على الحدود البحرية، عبر اختيار خطّ الترسيم البحري بعيداً عن الشاطئ 7 أمتار، نظراً إلى أنّها النقطة الأساسية والجوهرية من النقاط السبع الباقية المتنازَع عليها. فهل العودة إلى التفاوض عليها يعني إمكان تعديل انطلاقة الخطّ البحري 23 الذي بقي مؤقّتاً في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان؟ وهل يفتح اقتراح الترسيم البرّي الباب على تعديل اتفاق الترسيم البحري (عُرف بأنّه “خطّ العوّامات” الإسرائيلية)؟ أم يكون المخرج بتركها في عهدة “اليونيفيل”؟

– نصَّ الاتفاق البحريّ حرفيّاً على الآتي: “يتّفق الطرفان على إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك طول خطّ العوّامات البحرية الحالي، وعلى النحو المحدّد بواسطته على الرغم من المواقف القانونية المختلفة للطرفين بشأن هذه المنطقة التي ما تزال غير محدّدة. وفي حال برزت مشكلات تقنية حول تنفيذ مندرجات هذا الاتفاق، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية هي الطرف المخوّل العمل على معالجة هذه الخلافات”. وهذا شكّل المدخل لعودة الوسيط الأميركي، كبير مستشاري إدارة الرئيس جو بايدن لأمن الطاقة العالمية، آموس هوكستين إلى إسرائيل الأسبوع الماضي بالتناغم مع طرح الترسيم البرّي، فضلاً عن أسباب أخرى متّصلة بقرب بدء الحفر في البلوك 9 اللبناني.

إقرأ أيضاً: هل تغيّرت قطر فعلاً؟

– الخلاف السابق على النقطة B1، حسب ما ذكره مصدر دبلوماسي أميركي قبل سنوات، سببه قضم إسرائيل بضعة أمتار (بالعشرات) طولاً، وبعمق 12 متراً باتجاه فلسطين المحتلّة، عند انسحابها من الجنوب. والحجّة هي أنّ الجيش الإسرائيلي لن يقبل بتسليم هذه المنطقة للبنان نظراً إلى أنّها تقع على تلّة مشرفة على الشاطئ الفلسطيني حيث أقام الإسرائيليون منتجعات سياحية مهمّة لها أبعاد استثمارية مربحة. وقال الجانب الأميركي في حينها إنّ هاجس إسرائيل هو أنّ إتاحة سيطرة الحزب على هذه التلّة تسمح له بتهديد المنتجعات السياحية بسهولة، وإسرائيل لن تقبل بذلك. وأفادت المعلومات في حينها أنّ الجيش الإسرائيلي اقترح إعطاء لبنان مقابل مساحة تلك التلّة مساحات أكبر منها في مناطق أخرى، لكنّ لبنان رفض المقايضة.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…