غاب ريمون إدّه وهو يقول إنّ “سائق ياسر عرفات اطّلع على “اتفاقية القاهرة” في العام 1969 وأنا نائب في البرلمان اللبناني لم أطّلع عليها”. واليوم باختلاف الزمان والظروف السياسية، فإنّ إعلان الرئيس نبيه برّي التوصل إلى اتفاق ـ إطار للمفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة، يحيل إلى رواية إدّه تلك. إذ يمكن القول مَجازاً إنّ سائق برّي اطلّع عليه دون نواب الأمّة جميعاً الذين كان من المفترض دستورياً ووطنياً أن يطلعوا عليه ويناقشوه ثمّ يقرّونه أو لا، وذلك باعتبار أنّ رئيس البرلمان أنجزه من دون تكليف دستوري.
إقرأ أيضاً: الحزب “يهدّىء” بمفاوضات الترسيم.. لتأخير جهنّم والعقوبات
في السياق ليست الإشكالية الأساسية ما إذا كان رئيس “حركة أمل” قد أمّن مصلحة لبنان من الاتفاق أو لا، بل الأهمّ هو الكيفية التي اعتمدت للتفاوض وصولاً إلى الاتفاق. لأنّ ملفّاً نوعياً ومفصلياً بهذه الأهمية لا يمكن تبرير بتّه من خارج الآليات الدستورية لمجرّد الثقة بوطنية الرئيس برّي. ولعلّ قبول الأخير تحمّل مسؤولية هذا الاتفاق التاريخي لوحده يعكس بحدّ ذاته الإشكالية الأساسية التي تحكم الوضع اللبناني.
وليس أدلّ على ذلك من قول ديفيد شينكر أنّه “لن يتمّ التفاوض مع حزب الله نهائياً على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل”، لكن ما لم يقله الرجل إنّه لا تفاوض من دون موافقة “حزب الله”، الركن الآخر والرئيس في الثنائية تلك. وهل يوافق أحد هذه المعادلة أكثر من رئيس “أمل”؟!
فهل تفسّر الجرأة وحدها توكّل مسؤول بعينه ملفّاً من هذا النوع؟ طبعاً لا، خصوصاً أنّ برّي يمتلك من الخبرة السياسية ما يكفي ليعرف أنّ ذلك تترتّب عليه مسؤوليات كبرى. بمعنى أنّ أيّ خطأ يرتكبه المفاوض على اتفاق بهذه الأهمية كفيل بتعريضه للمحاسبة السياسية والشعبية. وعلى الرغم من ذلك، فقد تشبّث رئيس البرلمان بالمفاوضة وحيداً على هذا الاتفاق ومن خارج أحكام الدستور. بل لطالما استعمل أسلحته السياسية والإعلامية ضدّ كلّ من تخوّله نفسه من الرؤساء محاولة أخذ هذا الملفّ على عاتقه.
كما لا يمكن تفسير تصرّف برّي باعتبار أنّ الأميركيين الوسطاء في هذا الملفّ منذ عشر سنوات يريدونه هو لا سواه مفاوضاً فيه، وذلك لحسابات جيوسياسية إقليمية متصلّة بمسار المواجهة/ التفاوض بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، بالنظر إلى أنّ برّي الشخصية الأنسب لأداء هذا الدور، ما دام أنه أحد ركني “الثنائية الشيعية”، وفي الوقت نفسه رئيس للبرلمان منذ العام 1992، ناهيك بوضعه ربطة عنق أنيقة بما لها من دلالات سياسية في السياق الشيعي اللبناني الحاضر.
وليس أدلّ على ذلك من قول ديفيد شينكر أنّه “لن يتمّ التفاوض مع حزب الله نهائياً على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل”، لكن ما لم يقله الرجل إنّه لا تفاوض من دون موافقة “حزب الله”، الركن الآخر والرئيس في الثنائية تلك. وهل يوافق أحد هذه المعادلة أكثر من رئيس “أمل”؟!
في الواقع، فإنّ أكثر ما يفسّر سلوك برّي في هذا الملفّ، هو أنّ توكّله إيّاه هو نتاج موازين القوى في لبنان منذ 7 أيار 2008. تلك الموازين المتّكئة على غلبة سلاح “حزب الله” على اللعبة الدستورية والسياسية. ولذا، فإنّ رئيس مجلس النواب لا يخشى المحاسبة في هذا الملفّ، لا لأنّه أكيد من صوابية خياراته – وقد يكون فعلاً على صواب، لكن أحداً لا يمكنه قياس ذلك ما دام التفاوض تمّ بالطريقة المعروفة – بل لأنّه مدركٌ تمام الإدراك أنّ ليس في مقدور أيٍّ من القوى السياسية في لبنان محاسبته، في ظلّ موازين القوى الحالية.
ليس قليل الدلالة قول وزير الخارجية الأميركي إنّ “إعلان اتفاق – الإطار خطوة حيويّة إلى الأمام تخدم مصالح لبنان وإسرائيل والمنطقة والولايات المتّحدة”. وهو كلام يفترض أن يلقى صدى لدى “المقاومة” التي لا يمكنها الاكتفاء بإعلان المصلحة اللبنانية في الاتفاق ما دام يؤمّن في الوقت نفسه مصلحة عدويها اللدودين
والحال، فإنّ أحد ركائز تلك الموازين هو إلغاء منطق الدولة وتجاوز القواعد الدستورية، بحيث يمكن لطرفها الأقوى التحكّم باللعبة السياسية وبالملفّات السياسية والاستراتيجية الأساسية من دون أيّ ضوابط دستورية، وكذلك من دون محاسبة. وليس بلا دلالة في السياق قول الأمين العام لـ “حزب الله” في إطلالته الأخيرة في 29/9، أنّ “ما تمّ طرحه علينا في موضوع الحكومة يخالف الأعراف القائمة منذ سنوات في لبنان”. وهنا بيت القصيد، أي في محاولة الفريق الغالب في لبنان، أي الثنائي “حزب الله” – “أمل” التحكّم بالمجال السياسي والوطني من خلال تكريس أعراف لا تمتّ إلى الدستور بصلة.
وهذا يحيلنا إلى قواعد اللعبة السياسية التي نجح “حزب الله” في فرضها تدريجاً بعد خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005. وهي قواعد تستلهم فكرتها أساساً من كيفية تعاطي النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد مع الوضع اللبناني بوصفه وضعاً طائفياً خالصاً. وقد طوّر “حزب الله” هذه الفكرة مستفيداً من تواطؤ القوى السياسية الأخرى. فأمست الممارسة السياسية طائفية بحت لا تستند جوهرياً على الدستور وآلياته وأحكامه، بل إلى موازين القوى السياسية/ الطائفية. بمعنى أنّ “حزب الله” ولتبرير إحكامه سيطرته السياسية والأمنية على مناطق لبنانية ذات غالبية شيعية خارج أي منطق دولتي، دفع إلى الأقصى فكرة الفدرلة الطائفية للعبة السياسية وفق نظرية “الأقوى في طائفته” الذي يحكم “مكوّنه” ثمّ يعبر إلى السلطة.
لقد مكّنت هذه النظرية “حزب الله” من التحكّم باللعبة السياسيّة ما دام الطرف الأقوى فيها، فاستطاع فرض أولوياته عليها والإمساك بالملفّات الأساسية وفق منطق جغرافي طائفي تحكمه موازين القوى لا منطق الدولة على ما حصل تماماً مع ملفّ ترسيم الحدود. هذا من دون إغفال أنّ أولويات الحزب، والثنائي المذكور، ليست لبنانية بحت، بمعنى إنّها خاضعة أيضاً لحسابات إيران حليفة الحزب ومموّلته باعتراف نصرالله نفسه.
هذا يحيلنا إلى توقيت الإعلان عن اتفاق – الإطار المذكور، بوصفه توقيتاً يبدو العامل اللبناني فيه ثانوياً أمام العاملين الإقليمي والدولي بالنظر إلى طبيعة المواجهات والتحوّلات الجيوسياسية في المنطقة، سواء لجهة المواجهة الإيرانية الأميركية المفتوحة. ولكن وفق أفق تفاوضي يبرّر من ضمن عوامل أخرى تمرير ملفّ ترسيم الحدود المذكور، أو لجهة اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية، وكلّ ذلك مضبوط بإيقاع الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وفي السياق، ليس قليل الدلالة قول وزير الخارجية الأميركي إنّ “إعلان اتفاق – الإطار خطوة حيويّة إلى الأمام تخدم مصالح لبنان وإسرائيل والمنطقة والولايات المتّحدة”. وهو كلام يفترض أن يلقى صدى لدى “المقاومة” التي لا يمكنها الاكتفاء بإعلان المصلحة اللبنانية في الاتفاق ما دام يؤمّن في الوقت نفسه مصلحة عدويها اللدودين، إذ إنّ العداوة تفترض تضارب مصالح الأعداء لا التقائها؟!
لكن السؤال الأهمّ يبقى من يحدّد المصلحة اللبنانية وكيف ووفق أيّ توقيت؟ إنّها الإشكالية اللبنانية المقيمة!!