أمس، انتهت المهلة الممنوحة لشركة “الفاريز”، وقُضي الأمر. التدقيق الجنائي طار. وربما قُذف إلى طاولة حكومة سعد الحريري المنتظرة. في حينه وبعد تشكيل الحكومة الجديدة، سيظهر جلياً من هي الجهة المعرقلة للتدقيق. أما اليوم، فإنّ مصرف لبنان امتنع عن مدّ الشركة بالبيانات التي طلبتها، متسلّحاً بالسرية المصرفية وبالشخصية المعنوية والاستقلالية التي يتمتع بهما. تلك السرية التي دُسّت في العقد الموقّع بين وزارة المالية والشركة بعد أن طُلب إخضاع عملها للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء، من أجل تمرير هذا الطعم.
يوم حمل وزير المالية غازي وزني قلمه ووقّع العقد مع شركة “الفاريز أند مارسال” في الأول من أيلول، من أجل التدقيق في حسابات مصرف لبنان، كان يعلم جيداً أنّ التدقيق الجنائي لن يمرّ، بل فعل المستحيل كي لا يمرّ. حتى رئيس الجمهورية ميشال عون المتمسّك الأول في التدقيق، ومن خلفه الوزير جبران باسيل كانا على علم بهذه الحقيقة أيضاً، لأسباب كثيرة، تبدأ بالعثرات القانونية ولا تنتهي بالاعتراض السياسي الخفي والمبطّن.
آراء قانونية كثيرة رأت أنّ وزارة المالية كان يمكن لها أنّ تُلزم حاكمية مصرف لبنان بالاستجابة لهذه المطالب، من خلال رفع السرية المصرفية عن حساباتها، وتالياً عن حسابات الدولة، وهذا بدوره كان سيُحرج “المركزي” وسيدفعه صوب التجاوب الإكراهي. وما الكتاب الذي وجّهته وزيرة العدل ماري كلود نجم إلى حسان دياب، تزامناً مع زيارتها قصر بعبدا، قبل يومين، إلاّ للضغط على رئيس الحكومة من أجل الضغط على وزني، ليضغط بدوره على مصرف لبنان في سبيل السير بهذا الخيار.
وزيرة العدل ماري كلود نجم بعد لقائها الرئيس عون: البحث تناول موضوع التدقيق الجنائي المالي في حسابات مصرف لبنان، وضرورة العمل على تنفيذ العقد مع شركة Alvarez & Marsal وتزويد المصرف المركزي الشركة بالمعلومات والمستندات المطلوبة
— Lebanese Presidency (@LBpresidency) November 2, 2020
إلا أنّ الاطلاع على نوعية الطلبات والأسئلة الموجّهة للمركزي من الشركة المدقّقة، تؤكد أنّ ذلك لن يكفي أبداً، لأنّ المطلوب أعمق من حسابات الدولة بكثير، ويتعلّق بسياسات مصرف لبنان وآلية عمله وتحرّكاته كافة، ولا يرتبط بالسرية المصرفية فحسب. بل أكثر من ذلك، فإن عرقلة التدقيق بحجة السرية المصرفية كان بمثابة “مزحة سمجة” اختلقها مصرف لبنان الذي يتكّل على ما هو أهم منها بكثير، هو يتّكل على غطاء سياسي يوفّره له الجميع.
آراء قانونية كثيرة رأت أنّ وزارة المالية كان يمكن لها أنّ تُلزم حاكمية مصرف لبنان بالاستجابة لهذه المطالب، من خلال رفع السرية المصرفية عن حساباتها، وتالياً عن حسابات الدولة، وهذا بدوره كان سيُحرج “المركزي”
الشركة سرّبت لموقع Forbes Middle East قبل أيام، مجموعة الأسئلة والاستفسارات والطلبات، التي وجهتها إلى مصرف لبنان، وعددها 133. أجاب المصرف على 70 طلباً (52% منها وليس 42% حسبما يُشاع) بشكل كامل، وعلى 6 بشكل جزئي، وقُسّمت على 4 مجموعات، وهي كالتالي:
المجموعة الأولى تتعلّق بأسئلة تخصّ “التدقيق الجنائي”، وهي عبارة عن 40 مطلباً، لم يُجب “المركزي” على 25 منها، مذيلّاً إجابته بعبارة: “هذه المعلومات ذات طبيعة سرية وفقًا لقانون النقد والتسليف، يرجى الرجوع إلى الرسالة المرفقة الموجّهة إلى معالي وزير المالية بهذا الشأن”، ومن أبزر الطلبات المرفوضة: السياسات والإجراءات والعمليات والأدلة والإرشادات المالية المكتوبة، قائمة بموظفي مصرف لبنان السابقين والحاليين مع المسمى الوظيفي والوظيفة، قائمة بجميع المؤسسات المالية التي استلم مصرف لبنان ودائعَ منها ولديه أرصدة لديها، تفصيل الحركة في ودائع البنوك التجارية، قائمة تفصيلية ودقيقة باحتياطيات والتزامات “المركزي” من العملات الأجنبية وجميع حركاتها، قائمة بجميع البائعين والعملاء، وقائمة بمعاملات الهندسة المالية كاملة مع شرح للمعاملات والوثائق الداعمة لعملية الموافقة، وكلّ ذلك من أول كانون الثاني 2015 وحتى آخر حزيران 2020.
أما المجموعة الثانية، فاختصت بـ”الحوكمة والضوابط” وضمّت 41 مطلباً، لم يُجب “المركزي” على 33 منها، وذيّلها بالعبارة نفسها. ومن أبرزها: تقارير التدقيق الداخلي والاستشارات الخارجية المتعلّقة بالامتثال وبالمخاطر وبالحوكمة وبمجلس إدارة المصرف، قائمة بالشكاوى وبتقارير المبلّغين عن المخالفات التي يتلقاها وبقضايا الاحتيال التي فتحها مصرف لبنان، تفاصيل حجم تنبيهات مكافحة غسيل الأموال التي تلقاها “المركزي”، تفاصيل فريق مراقبة معاملات مكافحة غسيل الأموال (الحجم والموقع والموارد وما إلى ذلك)، محاضر الاجتماعات والمجلس من 1 كانون الثاني 2015 حتى الآن، بما فيها اجتماعات المجلس المركزي والهيئة المصرفية العليا واللجنة الاستشارية، وجميع اجتماعات اللجان الفرعية.
المجموعة الثالثة تتعلّق باستفسارات واستيضاحات تخصّ “فهم البنية التحتية لمصرف لبنان“، وعددها 39 مطلباً، وأجاب مصرف لبنان عليها كاملة.
أما المجموعة الرابعة، فتخصّ طلبات الشركة لإنجاز التدقيق من “إعدادات للبنية التحتية“، وعددها 13، ولم يستجب “المركزي” لأيّ منها، وذيّل ردّه بعبارة “غير متوفّر”. من هذه الطلبات مثلاً توفير لوجستيات مثل قاعات اجتماعات ومكاتب وخزائن لزوم فريق عمل الشركة المؤلف من 16 خبيراً.
الاجابة على هذه الأسئلة أو الطلبات، كان يُفترض أن تكون المدخل الطبيعي للتدقيق، إلاّ أنّ ذلك لم يحصل، ولذا، فإن الشركة ستحصل على 150 ألف دولار غرامة فسخ عقد، وتعود أدراجها في حال اعتذرت السلطات اللبنانية عن عدم رغبتها بالمتابعة.
لكن الخفايا بدأت تتكشّف اليوم، بعد أن بدا الأمر في حينه وكأنّه “تخريجة” لموضوع التدقيق. العهد يصرّ على السير به ولو صوَرياً، على أمل أن يبقى هذا الجرح مفتوحاً إلى حين تقاطع فرص إثارته مجدّداً.
الشركة سرّبت لموقع Forbes Middle East قبل أيام، مجموعة الأسئلة والاستفسارات والطلبات، التي وجهتها إلى مصرف لبنان، وعددها 133. أجاب المصرف على 70 طلباً (52% منها وليس 42% حسبما يُشاع) بشكل كامل، وعلى 6 بشكل جزئي
حاكمية مصرف لبنان هي المركز الماروني الثاني في لبنان بعد رئاسة الجمهورية، ومن غير المسموح أن يكون هذا المركز خارج سلطة العهد وسطوته، ولو تأخر إقصاء رياض سلامة 4 سنوات (برغم التجديد له في العام 2017). أضف إلى ذلك أنّ سلامة منافس قويّ لجبران باسيل على كرسي الرئاسة، وما من طريقة لإزاحته إلاّ من خلال هذا التدقيق، الذي سيضمن إدانته أو تشويه سمعته، في أقل تقدير. أما سلامة فمتمسك بمنصبه، ويراهن على تبدّل الظروف وتشكيل الحكومة لممارسة دور رئيسيّ في “إنقاذ” لبنان من كبوته الاقتصادية، التي كان له دور رئيسي بها أصلاً. دور يظنّ سلامة أنّه كفيل بتقريبه إلى بعبدا، مع العلم أنّ منطق الأمور وتطلّعات اللبنانيين انطلاقاً من “ثورة 17 تشرين الأول”، تفترض أنّ اسمي سلامة وباسيل باتا للرئاسة من الماضي الغابر.
لدى باسيل في موضوع سلامة، مؤشر آخر أيضاً، هذا المؤشر يخصّ نظرة “حزب الله” الذي لم يبدُ متحمساً لفكرة التدقيق الجنائي، ويدفع بالرئيس بريّ صوب الدفاع عن وجهة نظره. ربما يتوجّس باسيل من رضى الحزب غير المعلن عن سلامة، ويطالب على طريقته بإدانة صريحة له كي يطمئن قلبه.
إقرأ أيضاً: التدقيق الجنائي مات… و”التدقيق الفرنسي” هو البديل
وسط هذه الدوامة كلها، الثابت الوحيد أنّ أحداً لا يريد التدقيق الجنائي، ومن يريده فعلاً ويتمسك به لا يريده من أجل هدف نبيل يخصّ المنفعة العامة والمال العام ومصلحة البلد، وإنما لمنفعة شخصية تنطلق من عقلية أحاديّة وتحاصصية، عقلية باقية هي هي مثلما عرفناها ولن تتغيّر.