التدقيق الجنائي في خبر”كان”: شركة لعوب ودولة “دكّان”

مدة القراءة 7 د


عندما وقّعت شركة “ألفاريز آند مارسال” عقد تقديم الخدمات الاستشارية مع وزارة المال في أيلول الماضي، التزمت تقديم تقرير مبدئي عن نتائج التدقيق الجنائي لأنشطة وحسابات مصرف لبنان مقابل مليونَي دولار أميركي. بالتوازي تمّ توقيع عقدين للتدقيق المحاسبي مع كلّ من “Oliver Wyman” و”KPMG”. يومذاك، كان وزير المال غازي وزنة يعرف جيّداً أنّ القوانين اللبنانية، بدءاً من قانون النقد والتسليف وصولاً إلى قانون السرية المصرفية، تمنع الشركة العالمية من الاستحصال على الداتا المطلوبة. مع ذلك وُقّع العقد. المطلوب كان كلّ شيء: كلّ أرقام وحسابات وتفاصيل موجودات واحتياطات المصرف المركزي. وقد اقتضت “اللعبة” من رئاسة المجلس النيابي ومعها وزارة “الأسرار” المالية، أن تُغطّي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تخريجة تضمن عدم توريط أيّ ممن تعاقبوا على إدارة الفساد…

إقرأ أيضاً: خبراء عن اختفاء 7 مليارات $: لا ثقة في أرقام مصرف لبنان

مرّت الايام الملأى بالأخذ والردّ بين “Alvarez &Marsal” و”المركزي” من دون أن يُذعن الأخير لمطالبات الشركة المتكرّرة بتسليمها المعلومات اللازمة. والأنكى أنّ هذا الأداء قد حصل تحت عيون المجتمع الدولي وصندوق النقد.

المقصود بالتدقيق الجنائي المالي هنا هو آلية تقييم خسائر البنك المركزي وتوثيقها بالأدلّة، ومن ثمّ تقديم خدمات الدعم القضائي والتحقيق وصولاً إلى المحاسبة. تختلف المحاسبة الجنائية عن التدقيق المالي الذي يُعنى حصراً بتقييم مدى امتثال البيانات المالية لمؤسسة ما قياساً إلى المعايير التنظيمية المعتمدة. ذلك يعني ببساطة أنّ الولوج إلى خبايا مصرف لبنان مستحيل بسبب طبيعة العقد الذي يعطي الشركة مهلة 10 أسابيع فقط لإنهاء جميع ملّفاتها من جهة ومن جهة أخرى الاستناد إلى القانون اللبناني في مسار التدقيق، فضلاً عن أنّ رياض سلامة على رأس حاكميّة المركزي. وذلك يعني أيضاً أن لا أمل بأيّ تدقيق جدّي.

اقتضت “اللعبة” من رئاسة المجلس النيابي ومعها وزارة “الأسرار” المالية، أن تُغطّي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تخريجة تضمن عدم توريط أيّ ممن تعاقبوا على إدارة الفساد

 

قبل كلّ شيء، تجدر الانطلاقة من السبب الكامن وراء الإصرار على “Alvarez & Marsal”، مع الإشارة إلى أنّ الشركة ليست متخصّصة بالتدقيق الجنائي على عكس شركة “Kroll” (أهمّ شركة عالمية في هذا المجال) التي كانت مطروحة، والتي رفضها حزب الله وحركة أمل، لأنّها على علاقة مباشرة مع السلطات الأميركية. إلى ذلك، هنالك شبهات حول عمل “Alvarez & Marsal” على خلفية طمس الأرقام والتلاعب في التقارير النهائية وتهريب داتا سرية (كما اتهمها البنك المركزي القبرصي). وللتذكير أيضاً، فإنّ جوزيف بيراردينو (Joseph Berardino) أحد المديرين التنفيذيين في “Alvarez & Marsal” هو نفسه الرئيس السابق لشركة “آرثر أندرسون” (Arthur Andersen) التي كانت واحدة من أكبر 5 شركات للخدمات المحاسبية في العالم قبل أن يتهمها القضاء الأميركي بالاحتيال وعرقلة العدالة.

في النهاية، وقع الاختيار على “Alvarez & Marsal”. بحسب العقد، حُدّدت أتعاب إعداد التقرير الجنائي المبدئي الخاصة بـ 2.100.000 (مليونَان و100 ألف دولار أميركي) تغطي فترة 10 أسابيع من قرار البدء حتى تقديم التقرير. لكن في حال قصور إتاحة المعلومات يحق لشركة “ألفاريز آند مارسال” الحصول على 150 ألف دولار للتوقف عن العمل.

في الأيام القليلة المقبلة، تنتهي مهلة إعداد التقرير من دون التأكد مما إذا كان مدقّقو الشركة أصلاً في بيروت، فيما الشركة تهدّد بالرحيل. بذلك تكون الخلاصة واحدة: لن يكون هناك أيّ تدقيق جنائي، في ظلّ امتناع  البنك المركزي عن تسليم المعلومات فيما دولاراته تزداد نُدرة ومشاكله تزداد تعقيداً. لم يستغرب اللبنانيون هذا الأمر فهم اعتادوا على المحسوبيات في عالم الصناعة المصرفية، وهو ما يوثّقه احتكار كلّ من “Ernest &Young” و”Deloitte” على مدى 25 عاماً وهيمنتهما على التدقيق المالي للنظام المصرفي اللبناني، وتمريرهما كلّ ما يناسب الـ”سيستام” ويخدم مزاجيّته ويراعي استنسابيّته.

لن يكون هناك أيّ تدقيق جنائي، في ظلّ امتناع  البنك المركزي عن تسليم المعلومات فيما دولاراته تزداد نُدرة ومشاكله تزداد تعقيداً. لم يستغرب اللبنانيون هذا الأمر فهم اعتادوا على المحسوبيات

وعلى سيرة “Ernest &Young”، فإنّ نهجها تلاءم مع التركيبة اللبنانية. وهي سبق أن تورّطت في عملية احتيال على الناس بسبب ضلوعها  في انهيار بنك “Lehman Brothers” خلال الأزمة المالية في عام 2008. آنذاك ابتدعت الشركة العالمية، بالتواطؤ مع المصرف، خزعبلة محاسبيّة عُرفت بـ” Repo 105″. قامت اللعبة على تأجيل إعلان الإفلاس عبر إخفاء حقائق الوضع المالي غير الصحي للبنك. الـRepo 105 نوع من الثغرات التي تسمح بالاقتراض واحتساب القروض في القوائم المالية للبنك على أنّها إيرادات على الرغم من كونها ديوناً مستقبلية. بمعنى أبسط، هي طريقة  لتأجيل المشكلة، عبر الاستدانة ثم الاستدانة… فالاستدانة، على أمل التسديد يوماً ما. هرطقات كهذه هي ما أوصل الوضع في لبنان إلى ما هو عليه، وهي ما تمنع البنك المركزي من التعاون مع “Alvarez & Marsal” متذرّعاً أولاً بالسرية المصرفية التي تمنعه من كشف بيانات عملائه، وتحديداً الدولة اللبنانية بوزاراتها ومؤسساتها. وثانياً بعدم وجود أيّ علاقة تعاقدية تجمعه بـ”Alvarez & Marsal” على اعتبار أنّها وقّعت العقد مع وزارة المالية لا معه. هكذا، يبدو أنّ “الحاكميّة” قد تناست أنّ وزارة المال هي الوصية على مصرف لبنان المركزي حتى ولو تخاذلت عن القيام بدورها الرقابي عبر مفوّض الحكومة لدى البنك المركزي “المُخدّر” منذ سنوات.

لكن لماذا وقّع وزير المال غازي وزني العقد على الرغم من إدراكه مسبقاً أنّ حاكم البنك المركزي خارج عن السيطرة؟ وعلى أيّ أساس ضَمَن تجاوب مصرف لبنان من دون أيّ محاولة لتعديل بند السرية المصرفية إن لم يُرد إقرار قانون جديد؟ وماذا كان يفعل ممثّلو وزارة العدل لدى توقيع العقد على الرغم من معرفتهم بعدم قابليته للتطبيق، فأعطوا المركزي مخرجاً للإفلات من الالتزام؟ والأهم أين كانت لجنة المال والموازنة ورئيسها النائب إبراهيم كنعان الذي تنصّل من مسؤوليته، فأنزل كمّاً من الاتهامات بسوء النيّة على جميع من شارك في تحضير العقد؟ وكيف فاتته العوائق القانونية التي حالت في نهاية المطاف دون تطبيق بنود العقد؟

المحاسبة لم تعد ضرورية، فالنظام المصرفي قد عُرّي بالفعل، والمودعون باتوا يدركون أنّ أموالهم تبخّرت، ومدّخراتهم لم تعد موجودة

في جميع الأحوال، لم يعد هناك من داعٍ لكثير من التحليلات عن المستقبل المالي لبنان، فالـ”جميع” كان رافضاً منذ البداية لمبدأ المحاسبة الجنائية. إلا أنّ هذه المحاسبة لم تعد ضرورية، فالنظام المصرفي قد عُرّي بالفعل، والمودعون باتوا يدركون أنّ أموالهم تبخّرت، ومدّخراتهم لم تعد موجودة. أما اكتشاف ما أخفته سطور البيانات المالية للمركزي وقضايا التحقّق من كيفية تراكم الأصول والخصوم في ميزانياته العمومية، والتمّلك غير المشروع، والاختلاسات، والاستخدام غير المشروع للأموال العامة؛ وفحص تكوين احتياطي وخصوم العملات الأجنبية لمصرف لبنان؛ وفحص الشروط المتعلّقة بإصدارات السندات الحكومية وسندات الخزينة واكتتابات اليوروبوندز؛ ومراجعة عمليات الهندسات المالية التي ابتدعها مصرف لبنان… فكلّها لم تعد ذات أهمية مع عودة سعد الحريري رئيساً مكلّفاً واستمرار الثنائي الشيعي ومن يدور في فلكه بحكم لبنان مالياً.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…