الاستهلاك الزائد للمناصفة حوّلها من اعتدال إلى تطرّف

مدة القراءة 7 د


الطائفية تتحلّل. ليس معنى هذا أبداً أنّها تتجه للاندثار من تلقائها. هي تتحلّل لأنها لم تعد توحي بالثقة. اهتزّت بشكل عميق ثقة الفرد بأنّ طائفته هي ملاذه الأول والأخير، وأنّ الطائفية شعور أكثر حقيقية ومستوى من العلاقة الاجتماعية أكثر عمقاً من أيّ شعور أو علاقة أخرى. هنا، 17 تشرين تركت أثراً فعلياً، وليس وحدها، انسابت في مسار تراكمي مركّب. فالطائفية تتحلّل، ليس لأنّ البلد مقبل على “نفضة” مصمّمة شاملة في اتجاه الديموقراطية العلمانية، بل لأنّ الطائفية أخذت تفقد العناصر التي جعلت منها “بقية التماسك الاجتماعي” حين يغيب التماسك الاجتماعي، و”بقية العدل الاجتماعي” حين يغيب العدل الاجتماعي، ولأنّ التباعد في السنّ أكثر فأكثر بين الأجيال الشابة وبين أمراء الطوائف يفعل فعله أيضاً. وثمّة، ولو بتفاوت في المقادير والنسب، موجة “شحوب للكاريزما الزعامية” تخترق كلّ الطوائف، سواء عنينا الزعامة السياسية أو الدينية. كذلك، أصعب اليوم أن يرى محدودو ومنقطعو الدخل من كلّ طائفة أن أغنياء الملّة احتياطي استراتيجي لهم. 

يتراجع كلّ هذا. تتراجع قدرة الطائفية على الضبط. تتراجع أيضاً قدرتها على ضبط نفسها. لأجل هذا في نفس الوقت، المرحلة التي تتحلّل فيها الطائفية هي مرحلتها الأخطر. المرحلة التي يتراجع فيها سحرها الأبيض (أي ما بمستطاعها تقديمه للناس، حقيقة أو زيفاً) يتقدّم فيها سحرها الأسود. لم تعد أداة ضبط، لكنّها لم تعد ضابطة على نفسها. تحلّلها هو في أقلّ تقدير مرحلة طويلة، ومرحلة متصلة بتحلّل المجتمع والدولة بتحلّل الطوائف والطائفيات فيها على هذا النحو. 

إقرأ أيضاً: رايح عالنظام الرئاسي والناس راجعة

وهنا، يمكن القول إنّ لحظة تبوّؤ العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية شكّلت منعطفاً خرجت معه الطائفية عن مألوفها، على الأقل عن المعتاد عليه معها في العقود الأخيرة. إنّها بمعنى من المعاني أصيبت بالاستهلاك الزائد لنفسها، وتحديدا فكرة “المناصفة” الإسلامية المسيحية التي “صحّحت” الطائفية في الجمهورية الثانية، أصيبت بهذا الاستهلاك الزائد لها. 

ما الذي يعنيه الاستهلاك الزائد للطائفية عموماً، وللمناصفة تحديداً؟ شيء على منوال التحذير الذي أطلقه تقرير “أزمة الديموقراطية: حول القابلية للحكم” الذي أعدّه مايكل كروزير وصاموئيل هانتنغتون وجوجي واتانوكي عام 1975، التقرير الذي نبّه إلى أن الديموقراطيات الغربية تواجه مشكلة تصاعد مطالب وانتظارات وتطلّعات كثيفة بشكل يعيق تلبية مؤسساتها لهذه المطالب. شيء شبيه بالضغط الزائد على الشبكة التلفونية. بطبيعة الحال، غرف هذا التقرير من تقليد فكري محافظ ومتحسّس من “الغلو الديموقراطي”، لكن يمكن الاستيحاء منه للتفكير بالمدى الذي بلغه الضغط الزائد على شبكة المناصفة، وعلى شبكة المحاصصة، وبخاصة في المسار الموصل، من لحظة الخلاف على مسودة قانون “اللقاء الأرثوذكسي” عام 2013 (مبدأ كلّ طائفة تنتخب نوابها بمعرفتها)، والتأجيلات المتلاحقة للانتخابات النيابية، إلى لحظة انتخاب ميشال عون من بعد عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي (مصحوباً بمبدأ “كلّ طائفة تختار نصيبها بين الرئاسات الدستورية الثلاث”). ارتبطت هذه اللحظة بفحوى لم تجد من منظّر لها خيراً من جبران باسيل: لا خروج من الطائفية، إلا بالطائفية التامة. 

مشكلة العقل الطائفي في هذا البلد إصراره على رؤية الطائفية كشيء ثابت، ولو تبدّلت قشرته. ومشكلة العقل اللاطائفي أنه يكابر على شبكات التواطؤ بين الطائفية واللاطائفية

مع دخول البلد مزدوجة الانهيار الاقتصادي والانتفاض الاجتماعي، يضاف إليهما التشوّش السياسي بشكل عام، تنكشف هذه الطائفية التامة كحالة من التحلّل الشامل. تحلّلها من المعايير أولاً. ففي انتخابات 2018 ظهر أنّ مبدأ “كلّ طائفة تنتخب نوابها بمعرفتها” لا يسري بالشكل نفسه على كلّ الطوائف. ومع تحوّل النظام السياسي أكثر فأكثر إلى نظام متمركز حول رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى تعذّر الاستمرار بصيغة “الأقوى في طائفته” لرئاسة الحكومة، في مقابل استمرار رئاسة النواب لنبيه بري منذ 1992، والاقتناع التام في معشر العونية بأنّ الرئاسة حق مطلق للعماد عون منذ خريف 1988، فإنّ الاستهلاك الزائد للمناصفة والميثاقية والطائفية يدخلنا أكثر فأكثر في وقائع تحلّل آليات التماسك الاجتماعي الطوائفية نفسها، وسيطرح الأمر بشكل أكثر إيلاماً مع إعادة الهيكلة المرتبطة بالمسار مع صندوق النقد الدولي. حتّى تاريخه، شهدنا الاستهلاك الزائد للمحاصصة التوظيفية في جهاز الدولة وقطاعها العام، والاقتطاعية لمؤسساتها. لكن ما ستكون عليه الأمور وقت “المحاصصة بالمقلوب”، أي عندما يتطلّب الأمر “تقليص” القطاع العام؟ 

مشكلة العقل الطائفي في هذا البلد إصراره على رؤية الطائفية كشيء ثابت، ولو تبدّلت قشرته. ومشكلة العقل اللاطائفي أنه يكابر على شبكات التواطؤ بين الطائفية واللاطائفية. أساساً، قلّما اعتاشت الطائفية على الكلام الطائفي النافر. أكثر ما اعتاشت عليه هو اللاطائفية الانتقائية التي ترفض أن ترى الطائفية في هذا الأمر وترغي وتزبد إذ تراه في ذاك. كثيراً من الأحيان ينبغي أن تتطوّع لترجمة القول حين يقول هذا عن ذاك: “هذا طائفي”، فيكون مقصده: “هذا ابن طائفة أخرى”.

على طريقتها، شكّلت المناصفة مدخلاً للمزج الهائل بين الطائفية النافرة، واللاطائفية الطائفية. لماذا؟ لأنّ المناصفة لم تستطع الوصول إلى منزلة وسطى بين اختزالها إلى مجرّد شكل، وبين تشغيل لا يمكن أن تتحمّله، بشكل كامل. 

فثمة المناصفة الشكلية، وهذه يمكن أن تعطي نصف المقاعد للمسيحيين من دون أن يكون المسيحيون من يختارون حتّى أكثرية نوابهم. 

التفاؤل بأن الطائفية “المتحلّلة” ستقود إلى اضمحلال الطائفية تدريجياً، هو تفاؤل يقدّم الرغبات والأماني على المسارات والوقائع

وثمة المناصفة الكلية، وهذه تكابر على سؤال العدد، ومشكلتها أنها إذا تحقّقت في مضمار تتطلّب التوسّع إلى مضمار آخر. فلا تكتفي بالمناصفة في الحكم والتمثيل البرلماني مثلاً، بل تمتدّ إلى الإدارة والوظائف، وبالتالي تراكم أعباء إضافية على صعيد إظهار تناقضها مع مبدأ المساواة القانونية بين المواطنين، كما على صعيد الإدراك بأن نزعة النوستالجيا للجمهورية الأولى التي تتملّكها، ضاربة عرض الحائط عناصر الديموغرافيا ودروس الحرب وما بعدها، تقود إلى الاستهلاك الزائد، والنضوب المتسارع، ونفاد الرصيد. 

بين أن تكون المناصفة شكلية تنكّرية وبين أن تكون المناصفة كلية مطلقة، لم يوفّق البلد في إنضاج تصوّر آخر، شرطه الاعتراف بأنه لا يمكن المكابرة على “العدد” تماماً. فبالنهاية، الديموقراطية التمثيلية سواء كانت “عددية” او “توافقية” لا يمكن أن تنأى بنفسها عن المعادلات الحسابية. والديموقراطية بشكل عام عددية وتوافقية في آن، لأنها مسعى مؤسّسي للتوفيق بين معايير العدد وبين آفاق التعدّد. 

إلا أنه، وإلى حدّ كبير، ما فات فات، تصحيح المناصفة التي كانت أساساً مشروعاً تصحيحياً للصيغة الطائفية، صار وراءنا. دخلنا فترة، لا يبدو لها من أفق تجاوزي سريع لها، من الطائفية المتحلّلة بشكل مزمن، ومن المناصفة “غير المتناصفة.

التفاؤل بأن الطائفية “المتحلّلة” ستقود إلى اضمحلال الطائفية تدريجياً، هو تفاؤل يقدّم الرغبات والأماني على المسارات والوقائع. لم تعد الطائفية قادرة على التعرّف على نفسها في أيّ مرآة، لكنّها ما زالت قادرة على تهشيم كلّ المرايا. لم تعد المناصفة قادرة على ضبط الطائفية من داخلها، بآليات تحملها على الاعتدال. بل صارت المناصفة اسماً حركياً لتطرّف الطائفية نفسها. صارت عدلاً ظالماً، أو ظلماً عادلاً، بحسب زاوية الرؤية. هذه آخرة الاستهلاك الزائد وغير الصحي، لكنه “استهلاك” لم يتحفنا بعد بـ”أفضل” ما عنده. 

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…