الإستغلال الإيراني للتقارب السعوديّ والوساطة الصينيّة

مدة القراءة 9 د


لم تكن رقصة “عين الحلوة” الأمنيّة الأخيرة في عاصمة الجنوب صيدا اشتباكاً داخلياً عابراً ومحصوراً فقط. هي ليست حرباً لتحرير فلسطين واستعادة القدس الشريف. إنّها علامة بارزة على التغوّل الإيراني، ورسالة مباشرة عن القدرة على التحكّم بالساحة اللبنانية. كانت تحارباً بين الفصائل والمجموعات الأصولية في الظاهر، في حين أنّها في العمق مرحلة من مراحل “الحرب الباردة” الدائرة بين إيران والدول العربية كلّها على سلطة القرار والسلاح والنفوذ داخل المخيّمات الفلسطينية.

مآرب إيرانيّة خاصّة

تستعمل إيران الوساطة الصينية واتفاقها مع السعودية من أجل مصالح سياستها الخارجية التوسّعية. تلتزم به ورقياً ونظرياً وكلامياً، وتبرّد به وتسكّن المنطقة، وتتابع مشروعها عبر ثلاثة مسارات:

1- تعمل على فصل العواصم العربية بعضها عن بعض. تزيد الشرخ عملياً.

2- تعمل للوصول من خلال اتفاق بكين إلى اتفاق نووي جديد والسيطرة أكثر على مراكز القرار العربية بشكل عامّ.

3- تسعى إلى الانقضاض على اللقاء الخماسي لبنانياً بشكل خاصّ، بعدما التفّت عليها فرنسا وخرجت عن خطوتها الفردية في انضمامها إلى الفريق الإجماعي الخماسيّ، عبر دعم حليفها بتصلّبه في بيروت لإيصال مرشحه الرئاسي المفضّل.

تدأب إيران على تحقيق مسوّدتها على البارد من خلال بثّ المناخات السلمية والتوافقية والأخوية العائمة في المنطقة عبر مظلّة الاتفاق الصيني، فيما تتابع في العمق رسم وتمرير مخطّطاتها بنفس المفهوم والنسق الأيديولوجي الكيفيّ لولاية الفقيه. وهو ما لا تسمح به المملكة العربية السعودية. لذا لم يحدث قرار تأجيل فتح السفارتين والبعثات الدبلوماسية السعودية في كلّ من طهران ودمشق بشكل عبثي. ولم يكن أمر تحذير المملكة ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى بعض الدول الأوروبية، عشوائياً أبداً، فهي دول مؤسّساتية تراقب وتعمل بطريقة موضوعية وتحرص على مصلحة رعاياها ومواطنيها.

لم تكن رقصة “عين الحلوة” الأمنيّة الأخيرة في عاصمة الجنوب صيدا اشتباكاً داخلياً عابراً ومحصوراً فقط. هي ليست حرباً لتحرير فلسطين واستعادة القدس الشريف. إنّها علامة بارزة على التغوّل الإيراني، ورسالة مباشرة عن القدرة على التحكّم بالساحة اللبنانية

لبنان بنظر إيران

تصف إيران لبنان بعبارة “الشرق الأوسط الصغير”. تريد تعميم نموذجه في كلّ المنطقة. تسيطر على قراره وتعتبره مختبراً يمكن الاستيلاء من خلاله على منطقة الشرق الأوسط. لم تسمح بانتخاب رئيس في لبنان لا يرضى عنه الحزب. تحرِّك في سبيل ذلك كلّ الملفّات والأوراق. ولم يكن الاشتباك الأخير بين “فتح” والمجموعات الأصولية سوى محاولة للانقضاض على مركزية المقاومة الفلسطينية الشرعية والمعتدلة والحاملة لواء القضيّة، وتجريدها من بندقيّتها، والاستيلاء على القرار العربي فيها وتحويله إلى طهران.

لم تغيّر إيران طريقة من طرق تعاطيها مع أيّ استحقاق في لبنان. تقف دائماً خلف الحزب “درّة تاج ثورتها” في المنطقة. تمهّد له الطريق في كلّ ما يقرّر من أجل استمرارية تحكّمه بالساحة المحلّية اللبنانية. تعلم إيران بشكل تامّ عدم توافر ظروف عام 2016 ذاتها، التي ساهمت في وصول مرشّح الحزب الرئيس السابق ميشال عون، بسبب تغيّر الظروف الإقليمية والدولية وحتى المحلّية على الرغم من نجاحها في شرذمة الكتلة المعارضة. تتظاهر بعدم التدخّل. تصرّح إعلامياً بضرورة وإلزامية الحوار مع الحزب. تطلب منه التصلّب والتعنّت والتغوّل إلى حدّ تحدّيه المجتمع الدولي والانقلاب على بنود البيان الخماسي الأخير في الدوحة.

هل إيران الطرف الرابح في لبنان؟

اجتهدت دولة الفقيه في إيران، منذ عام 1982 بالتحديد، لأن تكون الطرف الرابح في لبنان. خطّطت وأوجدت الحزب. درّبته ودعمته وسلّحته وطوّرته لكي يكون القاعدة الإيرانية الأولى. لم تحِد طهران عن نظرتها الأصلية إلى بيروت في كونها عاصمة من عواصم النفوذ العربية التابعة لها على البحر المتوسط، وإحدى منصّات محور الممانعة التابعة في ترابها لفيلق القدس والحرس الثوري، والمجاورة لفلسطين المحتلّة.

استفادت إيران والحزب في لبنان من مرحلتين أساسيّتين:

– المرحلة الأولى: فتحت حرب الخليج الثانية والغزو الأميركي الأول الطريق أمام مسيرة سيطرة إيران والحزب في لبنان. عُبّد الطريق عبر منع إمكانية تطبيق اتفاق الطائف، وتضخّم الدور السوري، وتشويه مفاعيل وثيقة الوفاق الوطني التنفيذية. شُرّعت له الأبواب للاستحواذ رويداً رويداً على القرار اللبناني.

– المرحلة الثانية: جعل الغزو الأميركي الثاني للعراق في عام 2003 من الحزب لاعباً مقرّراً وقوّة لا بديل عنها في المنطقة العربية. مكّنه أن يكون صاحب القرار الميداني، وناشر فكر الوليّ الفقيه السياسي والعسكري خارج الحدود الإيرانية، من اليمن عبر الحوثيين إلى العراق من خلال الحشد الشعبي، إضافة إلى وجوده العسكري الكبير في سوريا. أضحى لبنان المركز الأساسي المصدّر لهذه النشاطات، فهو قاعدة إيرانية مشهودة عبر حليف إيران الحزب الذي هندس أذرعتها الثورية على المتوسط وحتى ما وراء البحار. وقد أوصلت هذه التراكمات لبنان إلى ما هو عليه الآن، بعد مفاعيل اتفاق الدوحة 2008.

لم تغيّر إيران طريقة من طرق تعاطيها مع أيّ استحقاق في لبنان. تقف دائماً خلف الحزب “درّة تاج ثورتها” في المنطقة

بغضّ النظر عن الوساطة الصينية التي أنتجت التقارب السعودي – الإيراني الممتاز من حيث الأهداف والمبادئ، وبمعزل تامّ عن نرجسية التوصيف اللبناني لتأثير هذا الاتفاق على الداخل اللبناني، كانت إيران أمام امتحان حقيقي لم تجتَزه إلى الآن، خصوصاً لناحية البنود اللوجستية التي تحاكي الآثار العملية المتوخّاة كنتيجة لهذا الاتفاق. وهو ما تعهّدت به إيران من خلال تغيير سلوكيّاتها مع المنطقة العربية، واحترامها سيادة الدول المجاورة لها واستقلالها والتخفيف من عصف سياستها التوسّعية، والعمل أيضاً على تهجين أذرعها العربية الممتدّة في كلّ العواصم العربية.

تتعامل إيران مع هذا الاتفاق كما تعاملت في السابق مع الاتفاق النووي 2015. لقد راهن المجتمع الدولي حينها على أن يزيد الاتفاق النووي من الانغماس الإيراني الإيجابي مع المجتمع الدولي. واعتمد عليه لمضاعفة الميول الإيرانية الشرعية نحو التسوية في العالم والمنطقة العربية وعواصمها المستقلّة ولبنان بشكل خاصّ. في حين عكس الواقع غير ذلك، إذ أطلق هذا الاتفاق اليد الإيرانية في المنطقة العربية من اليمن إلى بيروت. زاد من سطوتها وتعصّبها. أضاف إليها الغلوّ في النفوذ. تمسّكت أكثر بنهجها التوسّعي. تستخدم إيران هذا الاتفاق والوساطة الصينية مثل سلسلة توريد جديدة، في دعم لسياسة الأقليّات، وفي سبيل تصدير ثورتها العقائدية الهادفة إلى السيطرة الإقليمية.

سعي أميركيّ لضرب التقارب والنفوذ الصينيّ

تسعى أميركا جاهدة إلى إفشال هذا التقارب. تمهّد لضرب النشاط الصيني. لا تريد لنفوذ التنين أيّ نتيجة قيميّة على أرض الواقع العربية. تعمل على نسج الاتفاقات الثنائية مع كلّ من المملكة العربية السعودية وإيران. أفادت أميركا إيران عبر انسحابها من المنطقة. تتفاوض مع إيران أيضاً عبر الوسيطين العُماني والقطري. وتحاول بنفس الوتيرة تصحيح علاقتها مع حليفتها الاستراتيجية المملكة العربية السعودية.

ترزح إيران تحت ثلاثة أعباء محلّي وإقليمي ودولي. فمشاكلها الداخلية في ازدياد، وحراكها الإقليمي مشبوه فيه، ولا يحظى بالثقة العربية، إضافة إلى عزلتها الدولية المشهودة. هذا وتجد إيران في هذا التقارب خطوة صعبة، ولن تستطيع الوفاء بالتزاماتها. وتعمل إيران على الاستفادة من نفوذها والظروف الواقعية في آن، من دون تقديم أيّ تسهيل على الإطلاق. ويُعدّ لبنان في ذلك خير مثال. تريد إيران تغيير شكل لبنان وصيغته وتركيبته التي قام عليها، من خلال عمليات انتقائية وجراحات موضعية داخل الساحة اللبنانية المحلّية، وعزله عن الساحة العربية هويّة وانتماء.

تحاول إيران استخدام كلّ طاقتها. تعقد التفاهمات. توافق على القرارات الدولية بهدف النيل التامّ لمعظم أهدافها الخاصّة. استعملت الاتفاق النووي في السابق وفقاً لمآربها. تحاول تخييط مدارها الباطني من تقاربها مع المملكة العربية السعودية. لقد عجزت إيران عن الوفاء بما تعهّدت به. والمملكة تعي ذلك تماماً، حيث الشلل والهروب إلى الأمام في الملفّ اليمني، والاستشراس على الأرض العراقية، والوسوسة في سوريا للانقلاب على لقاءات القمّة العربية الأخيرة، ناهيك عن التعنّت في الملفّ اللبناني.

إقرأ أيضاً: لبنان: الاتّفاق السعوديّ – الإيرانيّ يصاب بالحمّى الخمينيّة..

أيلول على الأبواب

يدنو أيلول وملفّاته الساخنة من لبنان. ويرتفع وهج العزلة على إيران، وتقترب من الامتحان مع غضب عربي ودولي من سلبيّة أدائها والتفافها على الاتفاق، مع اقتراب نهاية زمن المسامحة الأميركية بعد زلزال شباط، والعودة إلى صيغة العقوبات. تجعل كلّ هذه التراكمات من لبنان ساحة هشّة. تدخله في مرحلة ضبابية وفي زمن ثقيل وخطير. يسهّل هذا الأمر من احتمالية استثمارها سلبياً داخل الساحة اللبنانية المحلّية والهشّة.

وضعت إيران لبنان ضمن الجعبة الإقليمية والدولية الواحدة، فيما تصرّ المملكة العربية السعودية على فصله واستقلاليّته عن باقي الملفّات. استاءت إيران من الحراكية الفرنسية الأخيرة. وامتعضت فرنسا من غلوّ إيران في الملفّ اللبناني بحجج وقوفها وراء الحزب، على الرغم من علاقتهما الاستراتيجية. لم ترضَ إيران عن انحراف فرنسا عن مسعاها الأخير في لبنان. لذلك بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفاً في الآليّات والتعاطي. والأحداث اللبنانية الأخيرة رسالة واضحة. لن تجبر إيران الحزب على تبديل قراره. ولن تكبح جماح تصلّبه في تمسّكه بمرشّحه، ولو كلّفها الأمر انقضاضاً على المجموعة الخماسية وبيان الدوحة الأخير.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…