خلال أسبوعين على انفجار بيروت، شعور قاسٍ يتدحرج بين اللبنانيين ككرة الثلج، ومفاده “أنا نجوت، ولكنني لست بخير”. شعور مفيدٌ إلى حدّ ما حين تحوّل الى شواهد إنسانية تسامت بالأوجاع، فحفّزت أجواء اللُحمة الاجتماعية ومبادرات لنجدة المتضرّرين. شريحة واسعة من الناجين تشعر بصعوبة العودة إلى روتينها اليومي وأساسيات احتياجاتها كالأكل، والنوم، والتركيز على العائلة والعمل. وتذهب بهم الحال إلى الإحساس بالذنب لأنّهم عاشوا فيما غيرهم توفّي بالانفجار، ولم يستطيعوا إنقاذه، بالرغم من أنّهم يعلمون جيداً أنهم ليسوا مسؤولين عن حدوث الكارثة وموت الضحايا.
إقرأ أيضاً: مساجد الأشرفية.. دمّرها التفجير وأهملها الترميم
“نحنا اللي بقينا كيف فينا نرجع نعيش؟ لمّا كل شي منعملو بحياتنا اليومية مغمور بإحساس بالذنب رهيب”، “خايفة إنسى، خايفة ترجع الحياة لطبيعتا، خايفة أنو أنا اللي ما متت إرجع عيش”، “صرنا نحسّ بالذنب إذا أكلنا، إذا شربنا، إذا نمنا، إذا ابتسمنا، إذا كفينا حياتنا طبيعي”، كلمات شاركها لبنانيون على صفحاتهم، ولقت موافقة واسعة من المتابعين. وهناك أيضًا من يشعر بالذنب لاعتقاده أنّ لا حقّ له بالألم وبالتعبير عنه، لأنّه لم يفقد عزيزًا أو لأنه بعيد.
إن كنت واحدًا ممّن يغزوهم هذه المشاعر، فأنت على الأرجح تختبر ما يسمى بـ”الإحساس بالذنب بسبب النجاة”.
كيف نعرفه؟
الطبيب النفسي والأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتور جوزيف الخوري، يوضح لـ”أساس” أنّ ” الإحساس بالذنب بسبب النجاة ليس مرضًا بحدّ ذاته، ولا نعترف به كمرض، بل هو ردّة فعل نفسية، ونمط تفكير مرتبط بالصدمات. ويحفّزه لدى الفرد حدث أليم أدّى إلى وفاة شخص أو عدّة أشخاص، فيما نجا هو دون سواه. وكلما زادت العلاقة متانة وقرباً من المتوفّى، يزداد الشعور بالذنب”.
إن كنت واحدًا ممّن يغزوهم هذه المشاعر، فأنت على الأرجح تختبر ما يسمى بـ”الإحساس بالذنب بسبب النجاة”
إلا أنّ ” الإحساس بالذنب بسبب النجاة ” يرقى إلى ماضٍ بعيد ليس بالإمكان تحديده لأنه ملازم للطبيعة البشرية. لكن أول تشخيص سريري له حدث “عقب الحرب العالمية الثانية، وفي ستينيات القرن الماضي حين لوحظ بشكل واضح لدى الناجين من مخيمات الابادة الجماعية النازية، لأنهم خضعوا لدراسات نفسية كثيفة. ولكن أؤكد أنه كان موجودًا منذ زمن أبعد”، يضيف الدكتور الخوري.
فقد أطلق المحلّل النفسي ويليام نيديرلاند مصطلح “متلازمة الناجي” عام 1961، انطلاقاً من تشخيصه، وعلاجه لحالات نجت من الإبادة المعروفة بـ”الهولوكوست”.
ويوضح الخوري أنّ هذا الذنب يرافق “اضطرابات ما بعد الصدمة، لدى أشخاص يبحثون عن سبب أو تفسير عقلاني لنجاة البعض أو موت البعض الآخر، مثلما وقع في مرفأ بيروت. عادة ما تدفع هذه الصدمة الشخص الناجي لمراجعة شعوره بالأمان الذي طوّقه بشبكة أمان اجتماعية وصحية ومادية. لكن الانفجار ضعضع هذه الشبكة، لأنّ كثيرين لم يستطيعوا الاحتماء من الانفجار، حتى لو قاموا بردّة فعل عقلانية، لكنها لم توافق الواقع. بمعنى آخر، حاول البعض إنقاذ نفسه والآخرين فمات، وبعض آخر لم يفعل شيئًا وبقي على قيد الحياة”.
مفاتيح العلاج
لا علاج قائمًا بذاته لـ”الإحساس بالذنب بسبب النجاة”، حسب الخوري، لكن الخروج منه يتيسّر في علاج اضطرابات ما بعد الصدمة، وتظهر علاماتها في “الأرق، وكثرة الأحلام، وعودة مشاهد الصدمة سواء في النوم أو اليقظة، والانسلاخ العاطفي عن المحيط. وعند تطرّفها، من شأن الاضطرابات أن تصيب الشخصية، فتجعلها شديدة الانطواء أو يصاب الشخص بالتوتر الدائم ويفقد حيويته ويغيّر مشاريع حياته. وفي هذه الحالة، يجب تدخّل المختصّ النفسي. وإن استمرّت العوارض لشهور، نكون دخلنا مرحلة الاكتئاب. وهنا تبرز ضرورة العلاج بالعقاقير والدعم النفسي”. في السياق، يتوقع الخوري أنّ “90% من الناس سيعودون إلى دورة الحياة الطبيعية في غضون شهر إلى شهرين من وقوع الانفجار. والشريحة الباقية ستحتاج للعلاج أو الدعم. ولبنان يحتضن فرص علاج وافرة ومن المستوى المطلوب، سواء في الجامعة الأميركية أو في العيادات الخاصة أو عبر الجمعيات”.
يتحرّر اللبنانيّ من الشعور بالذنب “حين يؤمن أن لا مناص من التأقلم مع الواقع الجديد، فيعود إلى روتينه السابق
يتحرّر اللبنانيّ من الشعور بالذنب “حين يؤمن أن لا مناص من التأقلم مع الواقع الجديد، فيعود إلى روتينه السابق. إذ لم يكن بمقدوره أن يفعل شيئاً ليحمي الآخرين، لأن إمكاناته أقل من عظمة الانفجار وصدمته”، يضيف الخوري، في إعادة تأكيد لتغريدة حديثة له على تويتر، جاء فيها: “جزء من العملية العقلية التي تتبع حدثًا صادمًا هو إعادة إحياء اللحظة باستمرار، لتبرير سبب بقاء المرء على قيد الحياة بينما لم ينجُ الآخرون. إنّ قبول عبثية النجاة والموت هو مفتاح الشفاء”.
ويختم الخوري مع ما يعتقد أنّه “رأي غير شعبي”، حيث “تعرّض الطبّ النفسي مؤخرًا لهجوم من آراء تفترض وقوفنا ضدّ الثّورة في لبنان، لأنّنا نعالج مشاعر الغضب، وهي ضرورية لإحداث التغيير. قياسًا على تفجير بيروت، ليس لجم المشاعر ما نوصي به، إنما تجنّب التركيز على الحدث الأليم بحدّ ذاته، لأنه يوقع الناس في شعور الـ retraumatization (أي إعادة إحياء الصدمة)، الذي يجبر الناس أن تعيش 4 آب من نافذة أناس تُوفّوا أو تضرّروا، وهو أمر يعيق إعادة تواصلهم مع الواقع”، مشيرًا إلى تأثير سلبي تحدثه وسائل الإعلام التقليدية والديجيتالية: “ليس من المفيد تكثيف وإعادة نشر صور وقصص الانفجار، لأنها تعيدنا إلى لحظة الصدمة، ولا تسمح للبنانيين بتخطيها”.