شكّل الحراك الشعبي اللبناني الذي انطلق في 17 تشرين الأول 2019 تحدّياً كبيراً لحزب الله. فالحزب تفاجأ بهذا التحرّك الشعبي الكبير، الذي وصل إلى أعماق المناطق التي له فيها حضور واسع، سواء على صعيد حجمه أو تنوّعه، مع أنه في الأيام الأُول لانطلاقته كان مؤيداً له. ولم يكن لدى الحزب في البداية رؤية كاملة وشاملة عن طبيعة التحرّك وآفاقه والأهداف التي يرغب بالوصول إليها. لكن مع تدحرج الأحداث أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، وبدأ الحزب يتفاعل مع التطوّرات ويحاول استيعابها والتعاطي معها بتدرّج من أجل الوصول إلى معالجة للأزمة الكبيرة السياسية والاقتصادية التي كانت وراء الحراك.
إقرأ أيضاً: “زمن السلمية انتهى”… الثورة بعد كورونا: انتخابات نيابية مبكرة.. وسلاح حزب الله
فكيف يقيّم الحزب الحراك الشعبي بعد مضيّ عام على انطلاقته؟ وما هو تأثير الحراك في رؤية الحزب للواقع اللبناني، ودور مؤسسات المجتمع المدني؟ وهل حانت الفرصة المناسبة للتغيير الشامل حسب أجواء الحزب؟
يقول بعض المتابعين إنّ الحزب تفاجأ كثيراً بهذا الحراك الشعبي الكبير في مواجهة العهد والحكومة. ففي اليومين الأوليين للحراك، كانت التقديرات أنّ ما يجري مجرّد اعتراض على سياسة الحكومة والضرائب التي تفرض على الشعب. ولذلك، شارك الكثيرون من أجواء الحزب والمقرّبين منه في التحرّكات الشعبية وقطع الطرق بهدف الضغط على وزير الاتصالات محمد شقير للتخلّي عن فرض ضريبة على استعمال الواتساب. وعمد وزراء ونواب الحزب للتنصّل من أيّ ضريبة قد تفرضها الحكومة. وكانت التوقّعات أن تنتهي التحرّكات الشعبية في هذه الحدود. لكن اتساع التحرّكات وامتدادها إلى كافة المناطق اللبنانية وازدياد عدد المشاركين فيها، شكّل مفاجأة كبرى للحزب وحلفائه، خصوصاً مع عدم توفّر معلومات ومعطيات في بداية الحراك عن وجود جهات داخلية أو خارجية تقف وراءه. وهذا ما حرص على الإشارة إليه الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابه الأول حول الحراك.
بعد حوالي أسبوع من انطلاق الحراك الشعبي، كشفت دراسة استطلاعية أجراها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق التابع للحزب أنّ 76% من اللبنانيين مع الحراك الشعبي
وكانت خطة الحزب تقتضي العمل لاستيعاب الحراك الشعبي والاستفادة منه من أجل الضغط لإقرار الورقة الإصلاحية، مع الحفاظ على بقاء حكومة الرئيس سعد الحريري، وإجراء بعض التعديلات عليها بعد استقالة وزراء القوات اللبنانية. لكنّ تصاعد الحراك ودخول قوى سياسية وحزبية، ومؤسسات المجتمع المدني، وجهات خارجية على أجواء الحراك، دفع الحزب للتخوّف مما يجري والعمل لمواجهته، والدفع باتجاه بقاء الحكومة الحريرية وعدم استقالتها، والردّ على الحراك عبر تفعيل العمل الحكومي وتنشيطه. لكنّ استقالة الرئيس سعد الحريري وضعت الحزب أمام تحدٍّ كبير، خصوصاً مع تزامن الحراك مع إقفال الطرقات، وازدياد الضغوط الشعبية، ما دفع قيادة الحزب لإطلاق تحذيرات ومخاوف مما يجري، والدعوة لفتح الطرقات، والتعاطي بحزم مع من يقفلها. والنزول إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وفتح جسر فؤاد شهاب من قبل أنصار الحزب وحركة أمل، إضافة لمواجهة الاعتصام في مدينة النبطية، وشكّل نموذجاً لما يمكن أن يحصل. وكان قرار الجيش اللبناني بفتح الطرقات الطريق الأسلم لمنع تصاعد المواجهات، وحصر التحرّكات في الساحات، مع السعي لإعادة تشكيل الحكومة، واستيعاب التحرّكات الشعبية سياسياً، والعمل لتبنّي مطالب الحراك الواقعية، وخصوصاً موضوع مكافحة الفساد، ومحاكمة الفاسدين، ووضع رؤية إصلاحية جديدة.
كانت الخطة تقضي بإعادة تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، مع إجراء تغييرات أساسية فيها. لكن عدم تجاوب الحريري، والفشل في تقديم البديل، أدّيا إلى الذهاب إلى تكليف الدكتور حسان دياب، وتشكيل حكومة جديدة تعطي مؤشرات إيجابية من خلال بعض الوزراء المشاركين فيها، واعتماد سياسات جديدة داخلياً وخارجياً. لكن هذه التجربة فشلت بسبب الحصار الخارجي للحكومة وفشل عمليات الإصلاح. وجاء الانفجار في المرفأ لتفجير الحكومة مجدداً، وإطلاق المبادرة الفرنسية.
لكن إلى اين تتجه الأمور اليوم؟ وهل ستنتهي التحرّكات من خلال تشكيل حكومة جديدة وتنفيذ الرؤية الإصلاحية الشاملة؟ أم إننا أمام فرصة كبيرة للتغيير الشامل في السياسات الداخلية والخارجية؟
بعد حوالي أسبوع من انطلاق الحراك الشعبي، كشفت دراسة استطلاعية أجراها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق التابع للحزب أنّ 76% من اللبنانيين مع الحراك الشعبي. وقد يكون لهذه الدراسة تأثير مهم في تغيّر نظرة قيادة الحزب نحو الحراك الشعبي، ودفعه لتبنّي مطالب الحراك بوضوح، والإعلان على لسان أكثر من مسؤول أنّ الحزب يتبنّى معظم مطالب الحراك الإصلاحية. وجاء ذلك بشكل واضح على لسان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، الذي قال في واحد من خطاباته: “السؤال المركزي ما هو الحلّ؟ ومن أين نبدأ؟ البداية تكون بتشكيل حكومة قادرةٍ على معالجة القضايا وهي نقطة انطلاقٍ لا بدَّ منها، وبالتأكيد ستكون آثار الحراك الشعبي حاضرةً في تشكيل الحكومة ومؤثرة عليها”. لكن يجبُ أيضاً أن تكون للحكومة مقاربة مختلفة عن المقاربات السابقة، فلا يجوز الاكتفاء بالمقاربات والمتابعات العادية أو الملحة، بل يجبُ أن ترسم سياساتٍ زراعية وصناعية واقتصادية تعزّز الإنتاج المحلي، وتهيئُ فرص العمل للشباب والخريجين، وأن تضعِ خططاً لها توقيتٌ واضحٌ ومحدّد، وأن تراجع واقع الإدارة، وتفعِّل الأجهزة الرقابية لضبط الإنفاق وإيقاف الهدر والتهرّب والسرقة للمال العام. نحن نحتاج إلى ورشة حقيقية في بلدنا بأربعة مسارات متوازية تسير مع بعضها: أولاً، تحرّك القضاء، وفتح الملفات، وعدم إبقاء أيّ ملف في الجارور، وعدم الطمس على الدعاوى المقِدّمة. ثانياً، ضرورة تفعيل أجهزة الرقابة والتفتيش من أجل وضع حدّ للسُرّاق. ثالثاً، العمل الحكومي مع تشكيل الحكومة ضمن برنامج محدّد ومدروس له خططه وجداوله الزمنية. رابعاً، التشريع النيابي المواكب لحاجات البلد. ولا عذر لأيّ مسار من المسارات الأربعة، أن يرمي الحمل على غيره، أو أن ينتظر المسار الآخر”.
ماهي المحصّلة التي توصّل اليها الحزب بعد عام من الحراك الشعبي، وإلى أين تتجه الأوضاع في المرحلة المقبلة؟
لكن مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لاحقاً، جاءت أكثر وضوحاً من خلال الدعوة لتبنّي سياسات داخلية وخارجية مختلفة كلياً عما هو قائم اليوم، والتي تتلخّص بالذهاب نحو الكتلة الشرقية أو الأوراسية (الصين وروسيا وإيران والعراق وسوريا) على صعيد التعاون الاقتصادي. لكنّ استقالة الحكومة مجدّداً أدّت إلى وقف هذه الطروحات، وأعادت الأوضاع إلى نقطة الصفر.
أما مؤسسات المجتمع المدني، التي لعبت دوراً مهماً في الحراك الشعبي، فقد تبدّلت نظرة الحزب اتجاهها. وبدأ الحزب تقسيم هذه المجموعات إلى اتجاهات عدّة: القسم الأوّل مرتبط بالسفارات الأجنبية وينّفذ أجندات خارجية، والقسم الثاني مرتبط ببعض الأحزاب والقوى الداخلية، وهو معارض للحزب ولديه رؤية مختلفة. والثالث ينطلق من رؤية داخلية وغير مرتبط بأجندات خارجية ومؤيد للمقاومة أو هو قريب من الأحزاب اليسارية والقومية. وفي ضوء ذلك، أطلق الحزب مشروعاً متكاملاً من أجل دراسة واقع هذه المؤسسات وكيفية التعاطي معها في كافة الاتجاهات، والبحث عن بعض المساحات المشتركة مع تلك المؤسسات غير المرتبطة بأجندات خارجية.
لكن ماهي المحصّلة التي توصّل اليها الحزب بعد عام من الحراك الشعبي، وإلى أين تتجه الأوضاع في المرحلة المقبلة؟
من خلال الاطلاع على الأجواء الداخلية في الحزب، وكيفية مقاربته للواقع اللبناني اليوم، يبدو أننا سنكون أمام مقاربات جديدة في المرحلة المقبلة، والخيارات ستكون مفتوحة على كلّ الاحتمالات داخلياً وخارجياً. فالوضع الداخلي أصبح له الأولوية، ولا يمكن مقاربة الوضع من خلال إجراءات إصلاحية محدودة، بل لا بدّ من مشروع إصلاحي متكامل سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً. لكن المشكلة أنّ الأوضاع الضاغطة داخلياً وخارجياً، لم تسمح للحزب بتقديم هذه الرؤية المتكاملة. وإن كان طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالدعوة لعقد سياسي جديد، لقي ارتياحاً كبيراً لدى الحزب، إلا أنّ الأولوية اليوم هي لمنع البلد من الانهيار وللصمود في وجه الضغوط والعقوبات والحصار. وبعد ذلك، يمكن الحديث عن المشروع التغييري المطلوب.