اسكندر نجار يهدي “تاج الشيطان” إلى ضحايا كورونا

مدة القراءة 5 د


لا ندري ما جنسية الكاتب المحجور “غودان”، ولا أية صلة تجمعه بـ”مارك” الذي يتلقى منه رسالة في توطئة الكتاب. هذا الأخير، بعنوان “تاج الشيطان”(La couronne du diable) الصادر حديثًا للروائي اللبناني الفرنكوفوني اسكندر نجار، سرعان ما يجيّر اهتمامنا الّذي سيتدرّج بين الفضول والتّماهي، إلى أبطال أقصوصاته السبع، وهو سرديات متخيّلة من يوميات كورونا في ووهان، وصولاً إلى واشنطن، مروراً بخمس مدن في الخريطة الجيوسياسية التي يرسمها القطبان الأميركي والصيني، بما فيها بيروت، المدينة الأمّ لنجّار. لكن بيروت كانت محطّة لم يسترخِ فيها طويلًا قبل أن يستمرّ في عبور الحدود القوميّة الّتي خرقها على خطى الفيروس التاجي “كورونا”، ليستنطق إخفاقات وأيضًا انتصارات الإنسان مرتديًا جلدته. يقول: “لقد تضاعفتُ لأستنطق الشهود وأشعر قلقهم، كمراقب مُندمج، مثل هؤلاء المؤرخين الذين رافقوا الفاتحين في حملاتهم العسكرية لتسجيل أمزجتهم وكلماتهم وإنجازاتهم- بحيث لا ينساها أحد”.

نجّار اختار الدّخول في الاختبار الانساني والمواطني الأصعب، ذلك الذي يخوضه رجل دين وعلماني وعلمي في آن معًا

لبنان اليسوعي والمنتفض

خصوصيّة لبنان سواء في الانتفاضة الشعبية أو كورونا، عالجها نجّار من منظور مواطن مسيحيّ مؤمن، ينتمي دون شكّ إلى النخبة اللبنانية المسيحيّة الّتي تدين لها الفرنسيّة ازدهارها، تعليميًا من خلال الإرساليات وأدبيًا في الشعر مع أوّل ديوان نشره ميشال مسك عام 1874ـ وما تلاها من أزمنة فرنكوفونيّة في لبنان شكّلتها إلى حدّ بعيد علاقته بفرنسا. لذلك، قد يقع القارىء في خيبة عند قراءة أوّل سطور هذا الفصل، ظنًّا منه أن بطل الرواية انحاز لمعاناة شريحة طائفية من اللبنانيين، تفقده هويته “العالمية” الّتي ظهرت سابقًا. ثمّ نفهم أنّ نجّار اختار الدّخول في الاختبار الانساني والمواطني الأصعب، ذلك الذي يخوضه رجل دين وعلماني وعلمي في آن معًا. هذا الخيار يخلق له تحدّيات في رسالته الحسّاسة جداً تجاه من أسماهم “الأصوليين” في المسيحيّة، في سؤال طرحته سيدة “هل صحيح أنّ الرب أرسل لنا هذا الوباء ليعاقبنا لأننا ابتعدنا عنه، فيجبرنا على الصلاة والعودة الى الجوهر؟”- يجيبها الأب “بما أنها كارثة عالمية، أيّ رب تريدين تجريمه؟ ربّ يسوع، أم موسى، أم محمد، أم بوذا؟”، ثم يقول “قمت بتذكيرها بأننا لسنا بمفردنا على هذا الكوكب، وبأننا لا نحتكر الحقيقة”.

إقرأ أيضاً: بوهاين 2053… بيروت 2020: مدينة آيلة للسقوط

لاحقاً، في قول الأب “الإيمان يحرك الجبال” الذي استوحاه من إنجيل متّى، اعتراف بقدرة الإيمان في التغلب على الجائحة. وفي هذا الاعتراف خيط رفيع يظهر الفوارق الدرامية بين الإيمان والخرافة.

كتم الحقيقة في ووهان وطهران

إقران المدينتين لا علاقة له بالجغرافيا ولا بموقعهما في الكتاب، إنّما هو واقع واحد تتشاركه حكومة الحزب الواحد في الصين وإيران، وما يتمخّض عنها من أقماع لإسكات الحقيقة وكتم الأصوات المعارضة. تلخيص سريع وبليغ لهذه السياسات، حمله ذات يوم مسؤول صينيّ لكاردينال في الفاتيكان، حين سأله عن نظام الحكم في الصين، فأجاب السياسي أن نظامهم في الصين هو نسخة عن النظام البابوي، مضيفًا أنّ “الفارق الوحيد أيها المبجّل هو أنكم تسمونه الله ونحن نسميه الحزب”.

إن الوزن الثقافي لـ”تاج الشيطان” مؤهّل لدراسة سوسيولوجية سديدة، تتناول الاستجابة الدينية لوباء كورونا داخل المجتمعات الشرقية

في فصل “ووهان” تأبين على شكل أقصوصة من وحي الواقع، للطبيب “لي وينلاينغ” الذي توفّي في مستشفى ووهان المركزي بعدما أصيب بفيروس حذّر منه قبل شهور من تفشّيه، في رسالة بعثها إلى زملائه على تطبيق “وي تشات”. لكن الشرطة الصينية أوقفته تحت التحقيق في تهمة “بث شائعات” وألزمته بالتوقّف عن نشر “تعليقات كاذبة”.

زميله في طهران طبيب شرعي يتلقى زيارة رجلين غامضين يتضح أنهما مخبران، يحاولان إجباره على توقيع شهادات زور تفيد بوفاة مئات الإيرانيين لأسباب غير كورونا. يطرح الفصل أولويات هذا النظام، الذي يهتم بالحفاظ على كيانه برغم الأضرار، فلم يلغِ الاحتفال بذكرى الثورة الايرانية، ولم يؤجل الانتخابات في شهر شباط، فيما حقيقة كورونا ظلّت محجوبة عن شعبه الذي دفع بأرواحه فواتير التعتيم. وفي هذا الموقف، ينتقد الكاتب المكوّن الديني لهذا الكيان، القائم على عصب إسلامي، فيما يجبر طبيب على الشهادة زورًا، فيستشهد بآيات من القرآن تدين الكذب وشهادات الزور.

مقالات في أقاصيص

الدخول إلى مزيد من التفاصيل يسيء لحق الكتاب في اكتشافه، لذا نكتفي بالقول إنّ قراءته تجربة مشجّعة لمن يرغب بالحصول على بانوراما سريعة حول العالم في زمن كورونا. وتوقيعها بقلم كاتب لبناني دليل راهن على مقاومة لبنان للانعزال الذي يتربّص به في  السياسة والاقتصاد، لكن سفراء الفكر في الخارج لا سيما داخل الامتداد الفرنكوفوني، لا يزالون يؤمّنون في آدابهم جسر عبور للبنان نحو العالم.

إن الوزن الثقافي لـ”تاج الشيطان” مؤهّل لدراسة سوسيولوجية سديدة، تتناول الاستجابة الدينية لوباء كورونا داخل المجتمعات الشرقية، وثنائية الفرد/الجماعة في أوروبا، ودراسة في السوسيولوجيا السياسية داخل كلّ المجتمعات المختارة. فالكاتب، اتخذ دور الراوي العليم ليتفاعل بإنسانيته مع بواطن الانسان في كلّ بلد. هو في نهاية المطاف مواطن عالمي في زمن كورونا، أو ربما لكورونا فضيلة جعله مواطناً عالمياً، يتفاعل مع أيّ إنسان مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وفي كلّ أقصوصة موقف أو مبادرة أو شعور يغزو البطل، بقدرته على إحداث أيّ فرق يجعل العالم مكانًا أفضل.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…