في الأرقام التي نشرها صندوق النقد الدولي ضمن تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي”، التي حدّث خلالها تقديراته وتوقّعاته للدول الأعضاء، ومنها لبنان، ثمّة الكثير من الأرقام المقلقة. فبحسب الصندوق، من المتوقّع أن يتراجع حجم الناتج المحلّي اللبناني من 52.5 مليار دولار في العام الماضي، إلى نحو 18.7 مليار دولار هذا العام. مع العلم أنّ الناتج المحلّي يعبّر عن حجم السلع والخدمات التي أنتجتها دولة ما خلال فترة معيّنة، أي أنّه يعكس حجم الاقتصاد الفعلي لهذه الدولة. ببساطة، إذا صحّت توقّعات صندوق النقد لهذه السنة، ستكون البلاد قد خسرت ثلثي اقتصادها في عام واحد، وسيكون الناتج المحلّي قد عاد إلى مستوياته في العام 2002، أي أنّ لبنان سيكون قد خسر 18 سنة من النمو الاقتصادي بلمح البصر. ووفقاً لتقديرات الصندوق نفسه لتعداد السكّان، يمكن الاستنتاج أن حصّة الفرد من الناتج المحلّي ستكون قد انخفضت فجأة من 7660 دولار أميركي، إلى نحو 2740، أي كما كانت سنة 1994، منذ 26 سنة.
إقرأ أيضاً: مصرف لبنان جفّف الليرة.. فانخفض الدولار
في النتيجة، رفع صندوق النقد تقديراته لمستوى الانكماش الاقتصادي في لبنان إلى حدود 25%، في زيادة قدرها 13 نقطة مقارنة بالتوقّع الذي قدّمه حول لبنان في نيسان الماضي، وهو ما يعكس تنامي مستوى التشاؤم لدى خبراء الصندوق بالنسبة إلى الملف اللبناني، كما يعكس فشل جميع المعالجات المحلّيّة المتبعة في تقليص مستويات الهشاشة في الاقتصاد اللبناني.
هذه الأرقام قادت صندوق النقد إلى تحذير لبنان من أسوأ الانكماشات الاقتصاديّة التي يمكن أن يشهدها العالم، مع العلم أنّ الأرقام التي قدّمها الصندوق تدلّ على أنّ لبنان متجه بالفعل إلى تسجيل أسوأ أداء اقتصادي على المستوى الإقليمي
كلّ هذه التطوّرات دفعت الصندوق إلى اعتبار أنّ لبنان بات على عتبة الدخول في مستويات الدوّل الهشّة. في المقابل، بدا وضحاً أنه لدى خبراء الصندوق أولويّات محدّدة في ما يخص الملف اللبناني، إذ اعتبر الصندوق أنّه على لبنان “إصلاح نظام الدعم لديه للوصول إلى المواطنين الأكثر احتياجاً”، كما اعتبر الصندوق أنّ على البلاد “الاستفادة بشكل أفضل من احتياطاتها بالعملة الأجنبيّة التي تتراجع سريعاً”. بمعنى آخر، بدا من الواضح أنّ الصندوق ينسجم بشكل عام مع الاتجاه الذي ينحو إليه مصرف لبنان، في ما يخصّ ترشيد الدعم المقدّم لاستيراد المواد الأساسيّة، وإعادة النظر في طريقة إنفاق احتياطات العملة الأجنبيّة المتبقّية بحوزة المصرف المركزي.
هذه الأرقام قادت صندوق النقد إلى تحذير لبنان من أسوأ الانكماشات الاقتصاديّة التي يمكن أن يشهدها العالم، مع العلم أنّ الأرقام التي قدّمها الصندوق تدلّ على أنّ لبنان متجه بالفعل إلى تسجيل أسوأ أداء اقتصادي على المستوى الإقليمي، فيما لا ينافس لبنان على المستوى العالمي سوى ليبيا، التي تشهد حرباً أهليّة طاحنة أطاحت بمقوّمات النمو الاقتصادي رغم احتفاظ البلاد بمستويات مرتفعة من احتياطات النفط. مع العلم أنّ الصندوق امتنع عن إعطاء البلاد توقّعات متينة بالنسبة إلى السنوات الخمس القادمة، كما يفعل بالعادة مع الدول الأخرى، بالنظر إلى المستويات المرتفعة جدّاً وغير المعتادة من الغموض والتذبذب في تطوّرات الوضع المالي اللبناني.
على المستوى العالمي، ثمّة ما لا يبشّر بالخير في تقرير صندوق النقد أيضاً. فالصندوق قدّر أن تؤدّي أزمة الاقتصاد العالمي، التي نتجت عن تفشّي وباء كورونا، وكلّ ما رافقه من إقفال وشلل في دول العالم، عن هبوط أكثر من 90 مليون إنسان إلى ما دون خط الفقر المدقع، خصوصاً أنّ هذه الأزمة طالت بشكل أساسي فئة المياومين وأصحاب الأجر غير المستقر، وهي فئة يُرتقب أن تشهد انخفاضاً مفاجئاً وغير مسبوق في دخلها. مع العلم أنّ الصندوق يعرّف المقيمين تحت خط الفقر المدقع بكونها الفئة التي تعتاش بدخل يومي يقلّ عن 1.9 دولار أميركي للفرد الواحد. وبما أنّ الأزمة ستطال أصحاب الدخل المنخفض بدرجة أكبر من الفئات الأخرى، فمن المتوقّع أن تؤدّي الأزمة أيضاً إلى تعميق التفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، أي زيادة نسبة تركّز المداخيل بيد فئات محدّدة، خصوصاً كون فكرة العمل عن بعد غير متاحة للجميع بالقدر نفسه.
أكثر ما يقلق، فهو حصول هذا الانهيار في وقت تنشغل فيها جميع دول العالم بأزماتها الماليّة والاقتصاديّة الخانقة، وفي وقت تنهمر فيه على صندوق النقد عشرات طلبات المساعدات نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصاديّة في دول العالم النامية
على المستوى العالمي أيضاً، وبعد أنّ خسر العالم 4.4% من ناتجه نتيجة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة الراهنة، يقدّر الصندوق أنّ الاقتصاد العالمي سيعود إلى تسجيل معدّلات نمو في الربع الأخير من هذا العام. وقد لاحظ الصندوق مثلاً أنّ الصين، الدولة التي بدأ منها انتشار الوباء، تمكّنت وبسرعة من العودة إلى معدلات النمو منذ الربع الثاني من العام الحالي، نتيجة الرفع التدريجي لموانع التجوّل والإقفال القسري للمؤسسات. أما النتيجة المتوقّعة للصين لهذا العام، فهي تسجيل نمو اقتصادي كبير بنسبة 10%، نتيجة عودة عجلة الاقتصاد إلى الدوران. وعمليّاً، يبدو أنّ اندفاعة الصين إلى العودة إلى الإنتاج والعمل اليوم، هي ما يدفع الصندوق إلى التفاؤل بإمكانيّة عودة الاقتصاد العالمي إلى تسجيل معدّل قد يتخطّى الـ 5.2%، وهو ما سيمثّل بداية التعافي التدريجي من الركود الذي يشهده الاقتصاد العالمي اليوم.
في كلّ الحالات، يمثّل التقرير الذي أعدّه خبراء صندوق النقد مجرّد تذكير لجميع المسؤولين بحجم الخسارة التي ألمّت بالاقتصاد اللبناني نتيجة الانهيار المالي الحاصل اليوم. أمّا أهم ما يعكسه التقرير، فهو حجم التراجع في التقديرات المتعلّقة بالوضع اللبناني بين نيسان الماضي واليوم، وهو ما يعني أنّ ما نشهده ليس مجرّد انهيار حاصل منذ تشرين الأوّل من العام الماضي، بل المزيد من التدهور في جميع المؤشّرات التي تعبّر عن حجم هذا الانهيار. أما أكثر ما يقلق، فهو حصول هذا الانهيار في وقت تنشغل فيها جميع دول العالم بأزماتها الماليّة والاقتصاديّة الخانقة، وفي وقت تنهمر فيه على صندوق النقد عشرات طلبات المساعدات نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصاديّة في دول العالم النامية.