“اتّفاق الطائف” فدراليّة مقنّعة؟

مدة القراءة 8 د


جاء اتفاق الطائف عام 1989 ليوحّد الجغرافيا والديمغرافيا بعد انقسام دام 15 عاماً. لكنّ بنوده الإصلاحية، التي أصبح بعضها موادّ دستورية، تتضمّن إشارات لافتة إلى شكل من أشكال الفدرالية الضمنيّة التي عزّزت ما تضمّنه دستور عام 1926 وتعديلاته، على الرغم من أنّ اتفاق الطائف طوّر المادّة 95 الشهيرة من الدستور، فقرّر إنشاء الهيئة العامّة لدراسة سبل إلغاء الطائفية السياسية، وحاول التخفيف من غلوّ طائفية الوظائف في المرحلة الانتقالية التي تسبق الإلغاء النهائي. فما هي تلك الإشارات التي قد يستند إليها الفدراليون الجدد في لبنان، للدلالة على أنّهم لا يخالفون اتفاق الطائف، مع أنّهم يزعمون أنّه فشل، ولا بدّ من البحث عن بديل ناجع، وهو النظام الفدرالي، الذي يعدّدون محاسنه العميمة ويتغاضون عن مشكلاته العويصة؟

أوّلاً: رئيس جمهورية “ضعيف”
قد يقال إنّ أولى علامات الفدرالية المقنّعة في اتفاق الطائف إضعاف رئيس الجمهورية، رأس الهرم، الذي هو رمز الوطن كما جاء في اتفاق الطائف. إنّ تقليص صلاحيّات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في دستور 1926 وتعديلاته اللاحقة قبل عام 1990، يجعل منه فعليّاً صوت الضمير في الجمهورية المنقسمة طوائف وأحزاباً، بدل أن يكون رأس السلطة التنفيذية صاحب الصلاحيّات المركزية الواسعة. هو الرمز، ودوره المرسوم أن يكون حَكَماً بين البرلمان والحكومة، كما بين الطوائف، لا حاكماً بأمره، ونقطة التقاء الطوائف والأحزاب والمؤسّسات، فإليه يرجع المتخاصمون في السلطتين التشريعية والتنفيذية (البرلمان والحكومة)، وهو أيضاً الرقيب على القوانين في البرلمان وعلى المراسيم في الحكومة، من دون أن تكون له صلاحيّة وقف صدورها، فيعترض على قوانين تخالف الدستور، أو تجافي المصلحة العامة، ويعترض على مراسيم حكومية تفتقر إلى الشروط والمواصفات. وهو وإن كان لا يمكنه منع صدور القوانين ولا المراسيم، ولا يمكنه التصويت في مجلس الوزراء وإن حضر وناقش، لكنّه بشخصيّته الوازنة معنوياً، قادر لو أراد على أن يكسب الرأي العامّ إلى جانبه، وأن يشكّل قوّة ضغط على النواب والوزراء ومن وراءهم. لكن أليست هذه هي طبيعة مقام الرئاسة في دولة اتحادية كلاسيكية؟ الجواب هو العكس، فرأس السلطة الفدرالية مزوّد بصلاحيّات واسعة، من أجل موازنة المؤسّسات الأخرى، وكي يتمكّن من إدارة دولة مركّبة، تكتنفها صعوبات التوفيق بين المؤسّسات الاتحادية وبرلمانها، ومؤسّسات المقاطعات وبرلماناتها المحليّة. وأبرز مثال على الرئيس القويّ في أكبر فدرالية في العالم، هو الرئيس الروسيّ، ويليه الرئيس الأميركي. أمّا إعادة توزيع صلاحيّات السلطة التنفيذية في لبنان، على مجلس الوزراء مجتمعاً، فلأنّ النظام اللبناني لم يعد شبه رئاسيّ، وأضحى فعليّاً شبه برلمانيّ.  

إن صحّ أنّ لبنان الكبير نشأ منذ اللحظة الأولى، كفدرالية طوائفية غير جغرافية، فإنّ كلّ محاولات تجسيد هذا الانقسام الطائفي إلى وقائع جغرافية، كانت في كلّ الأحوال والظروف أقرب طريق إلى الحرب الأهلية

ثانياً: اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة
نصّ اتفاق الطائف على إقامة اللامركزية الإدارية الموسّعة، لكنّه ابتدأ النصّ بالتأكيد أنّ الدولة اللبنانية هي دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قويّة. أمّا ما عناه باللامركزية الإدارية الموسّعة، وهي كانت مطلباً مزمناً بسبب تركيز التنمية والإدارة تاريخياً في بيروت، فهو تسهيل أمور المواطنين، ومدّ التنمية إلى المناطق، عن طريق توسيع صلاحيّات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محليّاً، بمقابل محدّد، وهو إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمّن الانصهار الوطني، ويضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات، وأن تكون اللامركزية الإدارية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكلّ قضاء يرأسه القائمقام، تأميناً للمشاركة المحليّة. وفوق ذلك، اعتماد خطّة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديّات والبلديّات الموحّدة والاتحادات البلدية بالإمكانات الماليّة اللازمة.
فهي، بنصّ اتفاق الطائف، لامركزية إدارية موسّعة فقط، من دون ذكر الموارد الماليّة. فلا وجود للامركزية ماليّة في اتفاق الطائف، بل إنّ بند اللامركزية الإدارية الموسّعة لم يدخل التعديلات الدستورية لعام 1990، وبقيت مشروعاً إصلاحيّاً معلّقاً، على الرغم من الجهود التي بذلها الرئيس السابق ميشال سليمان لاقتراح مشروع قانون بهذا الخصوص، من خلال لجنة رأسها الوزير السابق زياد بارود.

ثالثاً: مجلس الشيوخ
نصّ اتفاق الطائف في قسم الإصلاحات السياسية على إنشاء مجلس شيوخ، وورد في الدستور المعدّل عام 1990، حيث جاء في المادّة 22: “مع انتخاب أوّل مجلس نوّاب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية، وتنحصر صلاحيّاته في القضايا المصيرية”. ولم تُحدَّد صراحة تلك القضايا المصيرية التي يُعنى بها المجلس الذي هو بمنزلة المجلس الأعلى، بمقابل البرلمان الذي هو المجلس الأدنى. لكن يُستشفّ من طبيعة هذا المجلس، لا سيما إن أُلغيت الطائفية السياسية، أنّه يهتمّ أوّلاً بالقضايا التي تهمّ الطوائف الدينية المعترف بها، فيحفظ حقوقها، إذ لا يعود مجلس النواب غير الطائفي مخوّلاً أو قادراً على متابعة تلك المسائل اللصيقة بالمكوّنات الطائفية. وتمتدّ صلاحيّات مجلس الشيوخ إلى جوهر النظام اللبناني، لحفظ توازناته، ومراقبة تصرّفات السلطتين التنفيذية والتشريعية، فلا يمرّ قرار الحرب والسلم، ولا حالة الطوارئ، ولا أيّ مسألة خطيرة من دون موافقة مجلس الشيوخ، وكذلك الأمر بالنسبة للقوانين الصادرة عن المجلس الأدنى (البرلمان). وكان مجلس الشيوخ قد أُنشئ بموجب الدستور الصادر في 23 أيار 1926، أيام الانتداب الفرنسي، وأُلغي بموجب القانون الدستوري الصادر في 17 تشرين الأول 1927، وضُمّ أعضاؤه لمجلس النواب، والسبب هو أنّ وجوده يعقّد الحياة السياسية بدل تسهيلها. وبعد الاستقلال، ظهرت دعوات إلى إحياء مجلس الشيوخ، لا سيّما خلال الحرب الأهليّة، في الورقة السياسية الصادرة عن الهيئة العليا للطائفة الدرزية عام 1983، ثمّ نوقش لاحقاً في مؤتمر الحوار الوطني في جنيف في العام نفسه، وفي مؤتمر لوزان عام 1984. أمّا لجهة كونه مؤسّسة مرتبطة عادة بالنظام الفدرالي، فإنّ اتفاق الطائف روحاً ونصّاً شدّد على أنّ لبنان دولة مركزية، وهو لحظ إنشاء مجلس الشيوخ، لاعتبارات طائفية تمثيلية بديلة عن نزع طائفية البرلمان.

نصّ اتفاق الطائف على إقامة اللامركزية الإدارية الموسّعة، لكنّه ابتدأ النصّ بالتأكيد أنّ الدولة اللبنانية هي دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قويّة

رابعاً: الطائفيّة السياسيّة والأحوال الشخصيّة
الطائفية السياسية حتى في تعديلات الدستور عام 1926، كانت حالة مؤقّتة، بانتظار إلغائها. ثمّ نصّ اتفاق الطائف على آليّة محدّدة لإلغاء الطائفية السياسية، فأصبحت هي المادّة 95 المعدّلة في الدستور، معتبراً إيّاه هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية لدراسة الطرائق الكفيلة بإلغاء الطائفية واقتراحها وتقديمها إلى مجلسَيْ النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة .وفي الأثناء، تُلغى طائفية الوظائف، ما عدا الفئة الأولى، ويُشطب ذكر الطائفة في بطاقة الهويّة. وهذا البند من الاتفاق دخل كما هو في الدستور، ما عدا إلغاء ذكر الطائفة في بطاقات الهويّة، لسبب جوهري، وهو أنّه يمسّ مباشرة الأحوال الشخصية عند المسلمين، فحين تُشطب الطائفة، يصبح متعذّراً تحديد دين المتقدّم بطلب زواج في المحاكم الشرعية، إلا إن كانت نيّة النواب المشترعين في الطائف، إلغاء المحاكم الدينية في المرحلة الانتقالية، قبل الوصول إلى إلغاء الطائفية السياسية، في نهاية المطاف. وعليه، يكون ذلك مصداقاً لِما كان يقال وما يزال من إلغاء الطائفية في النفوس (الأحوال الشخصية) قبل النصوص (الدستور والقوانين). وهذا البند الإصلاحي شبه المستحيل، في اتفاق الطائف، يستغلّونه سياسياً لتوكيد الواقع الطائفي الصلب، الذي يفترض التماشي معه بالتعدّدية السياسية والإدارية المتوازية مع التعدّدية الطائفية والاجتماعية، أي العودة إلى فكرة الفدرالية، وهو ما يحاولونه الآن.

إقرأ أيضاً: فيدرالية للحلّ أم للحرب؟

لكن حتى لو أضحت المادّة 95 المعدّلة من الدستور، استناداً إلى اتفاق الطائف، هي الطريق المعاكسة عمليّاً، لاستحالة تطبيقها، لكنّ الاتفاق كان نظريّاً بمنزلة الردّ على الفدرالية الواقعية في آخر أيام الحرب. وإن صحّ أنّ لبنان الكبير نشأ منذ اللحظة الأولى، كفدرالية طوائفية غير جغرافية، فإنّ كلّ محاولات تجسيد هذا الانقسام الطائفي إلى وقائع جغرافية، كانت في كلّ الأحوال والظروف أقرب طريق إلى الحرب الأهلية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…