لم يكن اختيار مصطفى أديب لرئاسة الحكومة اللبنانية مفاجئاً لقيادة حزب الله. ففي حين واجه الحزب ومعه حركة أمل، تمنّع سعد الحريري وهو يرغب، إلا أنّ الثنائي الشيعي ارتضى من الحريري أن يسمّي من يأتي مكانه، مع الاطمئنان إلى أنّه لن يُحرجهما باسم لا يرضونه، مثل الرئيسين السابقين فؤاد السينورة ونجيب ميقاتي، أو حتّى تسمية السفير نواف سلام، لما يعرفه الثنائي الشيعي من اعتبارات خاصة تحكم خيارات الحريري على هذا الصعيد.
إقرأ أيضاً: بعد التكليف: شهر للتأليف بين عصا العقوبات وجزرة الدعم
وإن كانت قيادة الحزب على علم بالإشكاليات التي رافقت مهمة “أديب” خلال تولّيه رئاسة البعثة الدبلوماسية اللبنانية في ألمانيا، والآليات والسياسات التي تعامل بها في القضايا اللبنانية بالمحافل الدولية أو مع الجالية اللبنانية التي يشكّل أبناء الطائفة الشيعية العصب الرئيس فيها، فهي واكبته سياسياً وإدارياً منذ كان في مكتب رئيس الوزراء ميقاتي بعد عام 2011، واستمرت في “تفييشه” حتّى بعد انتقاله إلى السلك الدبلوماسي من خارج الملاك.
حزب الله هو الطرف السَبَّاق من بين الأطراف اللبنانية في الوقوف على التوجّهات الفرنسية حول الخيارات المطروحة للشخصية التي سيرسو عليها بازار التسميات والمشاورات الشكلية بعد إخراج الحريري لنفسه من السِبَاق
وإذا ما صحّت التسريبات التي تتحدّث عن دور فرنسي في حسم هذه التسمية، فإنه من غير الصحيح ما يشاع بأنّ الثنائي الشيعي قد تبلّغ بالاسم عصر يوم الأحد 30 آب 2020، بعد اتفاق “مجمع رؤوساء الحكومة السابقين” عليه، ورفع الاسم لرئيس الجمهورية. فهذه التسريبات تتحدّث عن اتصال هاتفي بين الرئيسين الفرنسي واللبناني يوم الجمعة تمّ فيه حسم التسمية فرنسياً، ما يعني تلقائياً أن يعمد الرئيس اللبناني لإبلاغ حليفه حزب الله بالقرار والتوجّه الفرنسي على خلفية التناغم الذي لا يغيب عن الرئيس بين الرئيس الفرنسي وحزب الله، والذي ظهر واضحاً في اجتماع قصر الصنوبر خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الأولى إلى بيروت بعد انفجار المرفأ.
ويبدو أنّ حزب الله هو الطرف السَبَّاق من بين الأطراف اللبنانية في الوقوف على التوجّهات الفرنسية حول الخيارات المطروحة للشخصية التي سيرسو عليها بازار التسميات والمشاورات الشكلية بعد إخراج الحريري لنفسه من السِبَاق. ليس لجهة وجود خطوط مفتوحة بينه وبين الفرنسيين، وإن كان لا يمكن استبعاد ذلك، بل لارتباطه العضوي بالسياق الإيراني والجهود التي تبذلها طهران في مواكبة تفاصيل ملفاتها الإقليمية، ومن بينها الملف اللبناني بما يعنيه من دور وموقع ومستقبل حليفها حزب الله، وما يمثّله في إطار مشروعها الإقليمي.
طهران لم تكن بعيدة عن الجهود والمساعي التي بدأها ماكرون بعد انفجار بيروت. وهي توقفت جيداً أمام الإشارات التي صدرت عن الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر
فالاتصالات الفرنسية الإيرانية لم تنقطع خلال الأشهر الأخيرة حول جميع الملفات في الإقليم وعلى الصعيد الدولي، خصوصاً ما يتعلّق بالتوتر والتصعيد القائم بين طهران وواشنطن. وهذه الاتصالات كان لها دور فاعل في تمهيد الطريق أمام حسم ملف رئاسة الوزراء في العراق ووصول مصطفى الكاظمي الذي تربطه بباريس علاقة عميقة بدأت خلال تولّيه منصب رئيس جهاز المخابرات، وتعمّقت بعد وصوله إلى رئاسة الوزراء، مستفيداً من الجهود الفرنسية لمنع وصول المواجهة بين طهران والإدارة الأميركية إلى نقطة اللاعودة من البوابة العراقية.
وهنا يمكن القول إنّ طهران لم تكن بعيدة عن الجهود والمساعي التي بدأها ماكرون بعد انفجار بيروت. وهي توقفت جيداً أمام الإشارات التي صدرت عن الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر عن استعداده لتسويق أيّ اتفاق حول حكومة نهوض وطني مع الأطراف المعنيّة بالساحة اللبنانية من بينها طهران وواشنطن. فضلاً عن التواصل المباشر مع ممثّل الحزب في اللقاء الذي شكّل مؤشراً على تعامل مختلف مع هذا الحزب على خلاف تعامل الإدارة الأميركية.
اللاعب الإيراني استطاع توظيف أوراقه بشكل سمح له بإحداث خرق في الموقف الدولي من دوره ونفوذه في الإقليم والشرق الأوسط، وحتّى في الملف النووي والجدل القائم حول الاتفاق الذي سبق أن تمّ التوقيع عليه بين طهران ومجموعة 5+1 في تموز/2015، عندما بدأ بترجمة نيته في التوجّه نحو الشرق وبناء شراكة اقتصادية استراتيجية مع الصين في مختلف المجالات الصناعية والتجارية والزراعية وحتّى العسكرية، وإمكانية أن تعمّم هذه التجربة باتجاه روسيا، ما يعني خروج الدول الأوروبية من دائرة الاستفادة من الفرص التي يتيحها الاقتصاد الإيراني المتهالك، والذي يحتاج إلى كلّ شيء. الأمر الذي دفع هذه الدول لإعادة تقويم التطوّرات واعتماد هامش في التعامل مع إيران يبتعد نسبياً عن الموقف الأميركي ولا يتصادم معه وينسجم مع مصالح هذه الدول الاستراتيجية والاقتصادية، ولتكون على الأقل شريكاً لكلٍّ من بكين وموسكو في السوق الإيرانية أفضل من أن تكون خارجها. ما يعني خسارة كلّ ما عملت على بنائه قبل العقوبات الأميركية المستجدّة في عهد الرئيس ترامب.
بناء على هذه المعطيات، وردت إشارات إيرانية عن جدّية التعاون مع باريس في الملف اللبناني وملفات أخرى
وعلى الرغم من الإشارة السلبية التي وجّهتها دول الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) لطهران في الملف النووي عندما قدّمت مشروع قرار يشكّك بالتعاون الإيراني على خلفية عدم سماح طهران لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالوصول إلى منشأتين تدور حولها شكوك، إلا أنّ هذه الترويكا وبقيادة فرنسية واضحة عملت على إسقاط المساعي الأميركية في مجلس الأمن لتمديد الحظر على الأسلحة التقليدية المفروض على إيران، والذي ينتهي في 18 تشرين الأول 2020 بناء على قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي يشكّل الشرعية الدولية للاتفاق النووي.
التعاون كما التنسيق الإيراني الفرنسي في الملف اللبناني، وحاجة كلا الطرفين لبعضهما البعض على هذه الساحة لتمرير المرحلة وعبور العواصف التي تحيط بلبنان والمنطقة بأقل الخسارة، لجم العديد من الأصوات الإيرانية التي هاجمت ما وصفته بـ”التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية اللبنانية الذي يستهدف النيل من حزب الله حليف إيران”. وشكّل الاتصال الهاتفي بين ماكرون والرئيس الإيراني حسن روحاني نقطة تحوّل أساسي في مسار التنسيق والتعاون، الذي يساعد باريس في الحفاظ على دورها التاريخي في لبنان، ونقطة متقدّمة في مواجهة الطموحات التركية المستجدّة في شرق المتوسط في المياه اليونانية والأزمة الليبية، فضلاً عن حقها في العودة إلى تفعيل استثماراتها في الغاز اللبناني. إضافةً إلى تراجع طهران عن رفضها تفتيش منشآتها، والإعلان عن مرحلة جديدة من التعاون مع الوكالة الدولية بعد زيارة إلى طهران قام بها رئيسها رفاييل غروسي، الذي مهّد الطريق أمام موقف أوروبي جديد رافض لتفعيل آلية العودة التلقائية للعقوبات التي تسعى له واشنطن (سناب باك).
وبناء على هذه المعطيات، وردت إشارات إيرانية عن جدّية التعاون مع باريس في الملف اللبناني وملفات أخرى. والأرجح أن تكون باريس قد عملت على تمرير تسمية رئيس مجلس الوزراء بعد انسحاب الحريري من السباق في إطار تفاهم مع طهران. وكان هذا السبب في تخلّي حزب الله عن أيّ حساسية حول الاسم المطروح أو آلية الاتفاق عليه.