تفرض التطوّرات السياسية والعسكرية التي تعيشها المنطقة على وقع الجبهات المشتعلة، ما يتعدّى الكلام حول الحرب على غزّة والقضية الفلسطينية. لم تعد المعركة مرتبطة بقطاع غزة إنّما بجبهات مفتوحة بشكل مدروس ومضبوط تتّصل بترسيم حدود ومواقع نفوذ في المنطقة. صحيح أنّ الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة تتّصل بعمليات تدمير وتهجير في سبيل إنهاء القضية الفلسطينية والإجهاز عليها، إلا أنّها وضعت عناوين كبرى لها، منها ما يستحيل تحقيقه ومنها ما يشير إلى معركة طويلة الأمد.
من الأسباب المباشرة الأولى، التي لن يكون هناك إمكانية لتحقيقها، ما أعلنته إسرائيل حول سحق حركة حماس وإنهائها، وتالياً تهجير الفلسطينيين إلى الدول المحيطة. وهذه كلّها لا تزال غير قابلة للتحقّق في ظلّ صمود الجسم العسكري لحماس وإدارة المعركة. أمّا في ما يتعلّق بالعناوين الواسعة للمعركة، فيأتي ما أعلنته إسرائيل من أنّ الصراع هو بين قيم الحضارة الغربية وبين التخلّف، وبين إرادة الحياة وبين إرادة الموت، وأنّ المعركة التي تخوضها تل أبيب هي معركة للدفاع عن أميركا وأوروبا. وقد أكثر المسؤولون من هذا الكلام في الفترة الماضية للحصول على دعم غربي ولوضع المعركة في سياق أوسع يتّصل بالتمدّد الغربي في المنطقة، الذي يلقى مواجهة من قبل الصين وروسيا وإيران. وفي مثل هذه المعارك لا تكون النتائج سريعة إنّما ستكون الحروب باردة وساخنة على فترة طويلة من السنوات.
تشير مصادر دبلوماسية عربية مواكبة للمفاوضات التي تشهدها القاهرة لـ”أساس” إلى أنّه يمكن خلال الأسبوعين المقبلين الوصول إلى وقف إطلاق نار عملي وغير معلن
حرب الاستنزاف
تشير الوقائع الحالية إلى الدخول في مرحلة من حرب الاستنزاف على الجبهات المختلفة، في قطاع غزة، جنوب لبنان وحتى في اليمن والبحر الأحمر. فيما إسرائيل تواصل استنزافاتها لحماس داخل غزة، ولإيران وحلفائها في سوريا مع عدم بروز أيّ مؤشّرات حول توسيع الصراع إلى لبنان ليتحوّل إلى حرب شاملة. إذ تشير مصادر دبلوماسية عربية مواكبة للمفاوضات التي تشهدها القاهرة لـ”أساس” إلى أنّه يمكن خلال الأسبوعين المقبلين الوصول إلى وقف إطلاق نار عملي وغير معلن، بحيث تغيّر إسرائيل من مسار عملياتها العسكرية داخل القطاع، وتبقي على عمليات الاستنزاف والاغتيال. كما تستبعد هذه المصادر امتداد الحرب على لبنان بالشكل الذي عرفته الحروب السابقة وآخرها حرب تموز. وهذه المعلومات التي يكشفها المصدر تتطابق مع ما كتبه الزميل نديم قطيش قبل أيام في “أساس” نقلاً عن معلومات أميركية تشير إلى الاستعداد للدخول في حرب استنزاف ضدّ قادة حماس في مناطق مختلفة، وربّما ضدّ مسؤولين في الحزب وآخرين إيرانيين.
لا تريد إسرائيل وقف إطلاق النار في غزة، ولا الوصول إلى تفاوض سياسي لأنّ الحكومة فيها غير قادرة على إبرام أيّ اتفاق،
وهذا يفرض تغييراً حكومياً إسرائيلياً والإطاحة بنتانياهو. بانتظار ذلك فإنّ العمليات الأمنيّة ستبقى مستمرّة لتبقي إسرائيل في حالة حرب. في ظلّ هذا الوضع، لا تريد الولايات المتحدة الأميركية تمدُّد الصراع أو اتّساعه إلى لبنان أو البحر الأحمر، وهي لا تزال تحافظ على قنوات اتصال خلفيّة بالإيرانيين في سبيل التفاوض المفتوح للوصول إلى اتفاق. ما تريده واشنطن في خضمّ الصراع الدولي الكبير هو استمالة طهران لا استعداؤها، وهذا يتّضح من خلال التعاطي الأميركي مع حلفاء إيران في العراق، لبنان، واليمن، وحتى التعاطي مع الموقف الإيراني الداعم لروسيا في أوكرانيا.
تشير الوقائع الحالية إلى الدخول في مرحلة من حرب الاستنزاف على الجبهات المختلفة، في قطاع غزة، جنوب لبنان وحتى في اليمن والبحر الأحمر
إيران تبحث عن دور موسّع
في المقابل، إيران تستفيد من الوضع القائم لتكريس دور موسّع في المنطقة. فهي التي كرّست دورها على الساحة الفلسطينية، والعراقية، والسورية واللبنانية بما يتّصل بأمن إسرائيل. تريد أن تكون إحدى أبرز الدول الشريكة في تقرير مصير الملاحة في البحر الأحمر. وبالتالي هي تطالب بالاعتراف بدورها في غزة والبحر الأحمر ولبنان. لذلك فإنّ المسلك الذي ينتهجه الحوثيون في هذه المرحلة يشبه إلى حدّ بعيد ما كان قد سلكه الحزب في الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى انخراطه في الحروب السورية والعراقية واليمنية، كنوع من تكريس نفوذ إيران. هذا الدور نفسه يتكرّر مع الحوثيين.
بناء عليه، فإنّ الصراع القائم حاليّاً يتجاوز أيضاً النقاش المفتوح حول القرار 1701، أو دور الحوثيين ونفوذهم، أو مصير قطاع غزة ومستقبله. إنّما تريد طهران أن تكون راعية لأيّ تفاهمات في المنطقة، وتفرض نفسها شريكة أساسية في أيّ تسوية شاملة تحتاج إليها المنطقة. بينما في المقابل، سيحاول الإسرائيلي العمل على التصعيد في سبيل التفاوض حول حدود النفوذ ونوع الدور الإيرانيَّين.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وسؤال “اليوم التالي”: ما بين واشنطن وطهران؟
إذا كانت روسيا خاضت الحرب ضدّ أوكرانيا لمنعها من أن تكون غربية، وفي إطار وضع سدّ منيع ضدّ التمدّد الغربي نحو الشرق، فإنّ الأميركيين والإسرائيليين يقولون بوضوح إنّ حربهم في قطاع غزة وضدّ الفلسطينيين هي حرب العالم الغربي أو المتحضّر، حسب وصفهم، بينما لم يظهر أيّ موقف روسي داعم لإسرائيل، فيما يتّضح دور إيران المنوط بحلفائها في غزة، جنوب لبنان، واليمن لمواجهة هذا المشروع ومنع إسرائيل من تحقيق انتصار كاسح يشير إلى تقدّم المشروع الغربي وانتصاره. لذلك فإنّ إيران تحاول منع مشروع التغريب واتفاقات السلام مع إسرائيل أو اتفاقات التطبيع، لأنّ ذلك سيجعل إسرائيل الدولة القاطرة في المنطقة. إنّه الصراع الذي يأخذ مجدّداً طابع الصراع بين الشرق والغرب.