لم يكن ولن يكون التصويت الإيراني على مشروع القرار الذي تقدّمت به المملكة الأردنية نيابة عن المجموعة العربية أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة والذي يدعو إلى إعلان وقف إطلاق نار إنساني في قطاع غزّة، مجرّد خطوة تهدف فقط إلى وقف عمليات القتل التي يمارسها الكيان الإسرائيلي ضدّ المدنيين في القطاع، بل من المفترض أن يشكّل تحوّلاً في السياسة والدبلوماسية الإيرانيّتين في المرحلة المقبلة بعد غزّة وحربها.
يمكن القول إنّ النظام الإسلامي الذي لا يعترف بوجود الكيان الإسرائيلي، يقوم للمرّة الأولى بوضوح كبير بإدخال تعديل جوهري في موقفه من خلال التصويت “إيجاباً” على هذا القرار الذي أُقرّ بأكثرية 120 دولة، من دون أيّ تحفّظ على ما جاء فيه من إشارة واضحة إلى ما نصّ عليه من حلّ الدولتين.
الموافقة الإيرانية الرسمية على مبدأ حلّ الدولتين في القرار الأممي لا تلغي محاولة رئيس الدبلوماسية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان التذكير بالمشروع الإيراني لحلّ القضية الفلسطينية
التصويت الذي قام به ممثّل إيران سعيد ايراواني في الأمم المتحدة لا يمكن اعتباره تصويتاً عابراً أو تحت ضغط الشروط السياسية والإنسانية التي يعيشها قطاع غزّة في هذه الحرب، بل يشكّل مؤشّراً واضحاً إلى نمط أو عقيدة جديدة في الدبلوماسية بدأت طهران اعتمادها في التعامل مع الأزمات الإقليمية، متأثّرة بالتطوّرات التي تشهدها المنطقة في الأشهر الماضية، خاصة بعد التوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات بينها وبين المملكة العربية السعودية.
أهمية دور إيراواني
تأتي أهميّة الدور الذي يلعبه ايراواني في هذا السياق من كونه جاء إلى هذا الموقع بعدما لعب دوراً محورياً عندما كان يشغل منصب مساعد الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القومي (علي شمخاني) في الحوارات التمهيدية مع المملكة العربية السعودية التي استضافتها العاصمة العراقية عام 2022، والتي انتهت بالإعلان عن اتفاق بكين في آذار الماضي 2023 الذي ينصّ على تطبيع العلاقة بين الرياض وطهران. وهذه المهمّة لم تقتصر على الحوار مع الجانب السعودي، بل كانت تتوسّع في بعض الأحيان إلى حوارات مع الجانب الأميركي مهّدت للقاء بين شمخاني ورئيس جهاز الاستخبارات الأميركية وليم بيرنز في بغداد أيضاً، وهو لقاء حرص الطرفان على نفيه وعدم تأكيده.
الموافقة الإيرانية الرسمية على مبدأ حلّ الدولتين في القرار الأممي لا تلغي محاولة رئيس الدبلوماسية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان التذكير بالمشروع الإيراني لحلّ القضية الفلسطينية الذي سبق للمرشد الأعلى للنظام السيد علي خامنئي أن طرحه عام 1999 وسُجّل في الأمم المتحدة ويقوم على مبدأ إجراء استفتاء يشارك فيه سكّان فلسطين الأصليون من اليهود (لا مكان ودور للمهاجرين) والمسيحيين والمسلمين (في الداخل والشتات) حول مستقبل النظام في فلسطين، خاصة أنّ كلاماً شبه رسمي نفى “وجود مشروع لدى إيران والحزب بإزالة إسرائيل من الوجود وإلا كان الإمام الخميني قام بوضع استراتيجية لذلك منذ انتصار الثورة”، وهذا الكلام خرج إلى العلن في طهران على لسان محمد علي مهتدي كبير باحثي مركز الشرق الأوسط للدراسات المحسوب على مكتب المرشد والمموَّل من هذا المكتب ومن حرس الثورة وتربط رئيسه حسين موسوي علاقة خاصة بالمرشد والقيادات العسكرية للحرس وغرفة القرار في النظام.
هذا المتحوّل في الموقف الإيراني من المسألة الفلسطينية يعني أنّ قيادة النظام ومراكز القرار الاستراتيجي بدأت تخرج من هيمنة الشعار والموقف الأيديولوجي والعقائدي وتقترب أكثر من الواقعية التي تنسجم مع البراغماتية الإيرانية، وهو موقف يترجمه الحرص الإيراني على تنسيق جميع الخطوات السياسية والدبلوماسية مع القيادة السعودية عبر وزير الخارجية فيصل بن فرحان، وأنّ الانتقال يعني العودة إلى القبول بالمبادرة العربية التي سبق أن قدّمتها القيادة السعودية عام 2002 في قمّة بيروت للجامعة العربية وتحوّلت إلى مبادرة عربية.
أسهم موقف المرشد الأعلى للنظام المبكر بعد ثلاثة أيام من عملية طوفان الأقصى في حسم الإرباك وضبط سقف المواقف ورسم سقف الموقف الإيراني الملزم للنظام بجميع مستوياته ومؤسّساته الأمنية والسياسية والعسكرية
المصالح الاستراتيجية الإيرانية
يصبّ عدم التصعيد أو خيار عدم الدخول في المعركة أو توسيعها في صلب المصالح الاستراتيجية لطهران والمحور الذي تقوده، ويتيح التركيز على جهود وقف إطلاق النار لهذا المحور أن يكون من أكثر الأطراف التي تحقّق المكاسب، لأنّ الحدّ الأدنى من نتائجه أنّه يُسقط من التداول شبح التهديد الإسرائيلي الدائم بإمكانية استهدافها في العمق، وتحديداً برنامجها النووي، بالإضافة إلى أنّ المعركة التي حصلت في 7 أكتوبر وانتهت مساء ذلك اليوم أنجزت مهمّتها بكسر قوّة الردع الإسرائيلية التي بات من الصعب كثيراً ترميمها سريعاً كما عبّر المرشد الأعلى خامنئي.
تقتضي المصالح الإيرانية في هذه المرحلة أولاً الكثير من العقلانية، وأن تذهب إلى خيار الاستثمار بالإنجازات الدبلوماسية والانفتاح الذي قامت به باتجاه دول المحيط العربي، وتحديداً السعودية، وثانياً عدم العودة مرّة أخرى إلى دائرة العزلة وما تعنيه من استمرار الحصار والعقوبات الاقتصادية، فضلاً عن أنّ الذهاب إلى خيار الحرب والتصعيد لن يكون مقتصراً على معركة أو مواجهة بينها وبين إسرائيل، بل سيضع إيران والنظام في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما لا يريده أحد في إيران، سواء المرشد أو القيادة العسكرية أو القوى السياسية، التي عبّرت عن ذلك بكلّ وضوح.
يؤكّد هذا الموقف المتروّي الساعي إلى توظيف الجهد الدبلوماسي الذي يقوم به عبد اللهيان بتوجيه مباشر من المرشد ورئيس الجمهورية وتنسيق واسع مع القيادة العسكرية، أنّ هناك إجماعاً شبه تامّ بين جميع المستويات السياسية والأمنية والعسكرية في إيران على أنّ العملية التي بدأتها حركة حماس والهجوم على مستوطنات غلاف القطاع قد فاجأت القيادة الإيرانية ومعها كلّ المحور أو الأفرقاء الذين كان من المفترض أنّهم أقطاب غرفة العمليات المشتركة للمحور أو ما يسمّى “وحدة الساحات”.
المفاجأة أو الصدمة انعكست حالة من الإرباك برزت في البداية بعدم وجود رؤية موحّدة بين هذه المستويات في ما يتعلّق بتقدير الموقف الذي من المفترض أن يحكم موقف إيران من هذا الحدث الذي تتجاوز تأثيراته المباشرة وغير المباشرة الداخل الإسرائيلي وتتوسّع لتشمل الساحتين الإقليمية والدولية وتتخطّى حدود أيّ توقّعات، وقد تشابه تداعياته إلى حدّ كبير تداعيات أحداث 11 سبتمر (أيلول) وغزوة منهاتن التي قام بها تنظيم القاعدة وطالت برجَي التجارة العالمية في نيويورك.
ما بين العقول الحامية التي أعربت عن تأييدها لعملية حماس، وهم يمثّلون شريحة ضيّقة من العسكر المتربّص للّحظة أو الفرصة التي تسمح أو تتيح له ترجمة موقفه الأيديولوجي أو العقائدي المتحكّم بخلفية قراءته السياسية والاستراتيجية، وبين الشريحة التي أصابها “صمت القبور” وانكفأت ولم تعلن أيّ موقف إيجابي أو سلبي من التطوّرات على العكس من كلّ السياسات والمواقف التي اعتمدتها في السابق وورّطت إيران في الكثير من الأزمات على خلفيّة الدعوة إلى إزالة إسرائيل ونفي المحرقة اليهودية والمطالبة بإعادة اليهود إلى الدول التي أتوا منها، وهذه الشريحة يمثّلها الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الأسبق سعيد جليلي. يبدو أنّ الحكومة الإيرانية استطاعت ضبط موازين مواقفها وقطعت الطريق على أيّ تفلّت في الآراء التي قد تصدر عن أيّ من أعضائها وما يمكن أن ينتج عنه من سلبيات لا تريدها القيادة والمصلحة الإيرانيّتان.
إقرأ أيضاً: في عقل نتانياهو: الحزب والعرب… شركائي!
ما بين وحيدي وخامنئي
المواقف المرحّبة بعملية حماس التي صدرت عن وزير الداخلية الجنرال أحمد وحيدي والمتأثّرة بتاريخه العسكري على الساحة اللبنانية وتولّيه قيادة قوّة القدس بين عامَي 1990 و1997 ثمّ انتقلت منه إلى قاسم سليماني، وكلامه عن الدور الإيراني في التحضير لها وما قامت به من دعم عسكري وتدريبي ولوجستي وماليّ لحماس والفصائل في غزّة، عاد النظام واستوعبها من خلال تفعيل عمل الدبلوماسية الرسمية التي نقلت الموقف الإيراني من تبنّي الدعم المالي والسياسي وصولاً إلى الدعم السياسي من دون أن تسقط من خطابها ومواقفها التلميح بعواقب أيّ عملية عسكرية واسعة قد تجرّ المنطقة إلى حرب لا أحد يريدها، وهي مواقف كانت رسائل تستهدف الإدارة الأميركية وضرورة ضبط القيادة الإسرائيلية لمنعها من الدخول في مغامرة لن تكون في صالح أيّ طرف.
أسهم موقف المرشد الأعلى للنظام المبكر بعد ثلاثة أيام من عملية طوفان الأقصى في حسم الإرباك وضبط سقف المواقف ورسم سقف الموقف الإيراني الملزم للنظام بجميع مستوياته ومؤسّساته الأمنية والسياسية والعسكرية، عندما نفى أيّ دور أو علاقة لإيران بهذه العملية، مشدّداً في الوقت نفسه على أهمية ما قامت به حماس ودعم إيران لها سياسياً وعقائدياً.