في مقابل المؤشرات الإيجابية الأميركية عن جدّية إدارة جو بايدن في التفاوض مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي وتوسيع دائرته، يعيش الداخل الإيراني حالة من الانقسام بين فريق يمثّله روحاني يدعو لاغتنام الفرصة، وبين فريق محافظ يتخوّف من تداعيات أيّ خطوة على معركة رئاسة الجمهورية في حزيران المقبل، والدور الإقليمي للنظام.
زاد المشهد تعقيداً بما فيه من “إيجابية متردّدة” اغتيال معاون وزير الدفاع ورئيس مركز دراسات وتطوير الصناعات الدفاعية في وزارة الدفاع والدعم اللوجستي الإيراني، محسن فخري زاده، الذي يعتبر “أبو البرنامج النووي الإيراني” بحسب توصيف أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية. فعلى الرغم من أنّ الرئيس المنتخب بايدن لم يستلم منصبه بعد، إلا أنّ اغتيال زادة سيُرخي ظلاله على قيادة النظام الإيراني التي تخوض جدلاً واسعاً حول “الشرعية الأيديولوجية” و”الشرعية البراغماتية” للذهاب إلى طاولة المفاوضات التي لن تقتصر على الموضوع النووي والعودة إلى الاتفاق الموقّع سابقاً (2015)، بناء على الكثير من المؤشرات.
إعلان الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن عن الفريق الذي اختاره لإدارة السياسة الخارجية (أنتوني بلينكن) والأمن القومي (جيك سوليفان)، وإذا أخذنا بعين اعتبار الدور السابق الذي قاما به خلال المفاوضات الطويلة التي شاركا بها إلى جانب وزير الخارجية جون كيري في رئاسة باراك أوباما للتوصّل بالشراكة مع الترويكا الأوروبية إلى الاتفاق النووي مع ايران… هذا الإعلان يشكّل رسالة إلى النظام الإيراني تحمل الكثير من الإيجابية عن النيات التي يمكن أن تسود حول مسار التفاوض للخروج من الأزمة الناتجة عن قرار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي في تموز 2018.
إعلان الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن عن الفريق الذي اختاره لإدارة السياسة الخارجية يشكّل رسالة إلى النظام الإيراني تحمل الكثير من الإيجابية عن النيات التي يمكن أن تسود حول مسار التفاوض للخروج من الأزمة الناتجة عن قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي في تموز 2018
إلا أنّ حسابات بايدن وطهران لم تكن متوافقة مع حسابات بيدر الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، بعد خيارهما الذهاب إلى رفع مستوى التصعيد مع إيران واستغلال المرحلة الانتقالية لتحقيق مجموعة من الأهداف الأمنية والسياسية، قد تساعد في تخفيف وطأة ما تخفيه المرحلة المقبلة من مفاجأت.
فمن ناحية، استطاع ترامب أن يستعيض عن العملية العسكرية المباشرة، التي كان من يحتمل أن تستهدف عدداً من المنشآت الحيوية النووية والاستراتيجية داخل إيران، من خلال إعطاء الضوء الأخضر للأجهزة المخابراتية الأميركية والإسرائيلية بتنفيذ عملية الاغتيال لمحسن فخري زاده وهي قد لا تكون الأخيرة. ما يسمح لنتنياهو بالتأكيد أمام الجميع على خطورة المخطّطات الإيرانية في المجال النووي الذي يشكّل تهديداً وجودياً للكيان الإسرائيلي وحلفاء واشنطن في المنطقة.
أخطر ما يمكن أن تكشف عنه عملية الاغتيال هذه، مدى الترهّل الذي تعيشه الأجهزة الأمنية الإيرانية في الداخل، خصوصاً في ما يتعلّق بالتعامل مع التهديدات التي تستهدف مفاصل برنامجها النووي
هذه الضربة أقلّ من حرب وأكبر من استهداف عابر لما يرمز إليه اختيار الهدف، وما يمثّله كرأس البرنامج النووي غير السلمي من ضربة مؤلمة لطموحات النظام الإيراني، والتي تعدّ أكثر إيلاماً من عملية اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني الذي يعتبر رأس المشروع الإقليمي لإيران.
ولعلّ أخطر ما يمكن أن تكشف عنه عملية الاغتيال هذه، مدى الترهّل الذي تعيشه الأجهزة الأمنية الإيرانية في الداخل، خصوصاً في ما يتعلّق بالتعامل مع التهديدات التي تستهدف مفاصل برنامجها النووي. والخرق الأميركي الإسرائيلي وصل إلى مستويات متقدّمة بمساعدة جهات داخلية إيرانية مكّنته من استهداف درّة تاج البرنامج النووي في منشآة نطنز في تموز الماضي. وهذه المرة كان اصطياد “أبو القنبلة النووية” يكشف أنّ هذه الأجهزة لم تكن في مستوى التعامل بجدّية مع التصريحات التي أدلى بها نتنياهو عام 2018، وتحدّث بها عن الهدف القادم لمخابراته بشكل مباشر، وذكر اسمه لأوّل مرّة في مؤتمر صحافي شهير قدّم خلاله ما سمّاه “أرشيف البرنامج النووي الإيراني الذي استطاع جهاز الموساد سرقته وتهريبه من إيران”.
وعلى المستوى السياسي، فإن هذه العملية ستعقّد ملامح المسار الذي بدأ يتبلور لإطلاق عملية التفاوض بين طهران وواشنطن، إذ من المتوقّع أن تلجم هذه العملية الاندفاعة التي يقودها الرئيس حسن روحاني للعودة إلى طاولة المفاوضات سريعاً، في حين أنّ التيار المحافظ يحاول كبح جماح هذه الاندفاعة بانتظار التغييرات المنتظرة في رئاسة السلطة التنفيذية بعد الانتخابات الرئاسية في حزيران 2021، والعمل على بلورة رؤية متكاملة لا تقف عند حدود إلغاء العقوبات، بل تؤسّس لمرحلة جديدة في الشرق الأوسط.
الضوء الأخضر الذي حصل عليه نتنياهو من ترامب، والمساعدة الأساسية التي قدّمتها المخابرات الأميركية لجهاز الموساد، والتنفيذ الذي قامت به عناصر إيرانية مرتبطة بهذين الجهازين، سيحرج الرئيس المنتخب بايدن ويضعه في مواجهة انتفاضة إيرانية جديدة أكثر تشدّداً، تجعل من الصعب على فريقه الدبلوماسي والأمني، الذي اختاره بدقة، وكأن مهمته الأولى هي التعامل مع الملف الإيراني، الضغط من أجل فتح باب التفاوض من جديد حول الاتفاق النووي وملفات أخرى. خصوصاً أنّ الهدف الرئيس لأيّ إدارة أميركية يتمثّل في تقليل مصادر القلق والتهديد الآتية من البرنامح الصاروخي والنفوذ الإقليمي لكلّ من إسرائيل والدول العربية الحليفة مع واشنطن.
الإيجابية الأميركية التي من المفترض أن تتبلور أبعادها وآلياتها في الفترة الانتقالية بين الرئاستين حتى العشرين من كانون الثاني 2021، رمت الكرة في الملعب الإيراني الذي بات مطالباً بتوضيح موقفه وكيفية تعامله مع هذه الإيجابية، وهل سيكون قادراً على الانتقال إلى مرحلة جديدة من التعامل مع متطلّبات المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ الخطوة الأميركية استطاعت أيضاً إدخال بعض الليونة على موقف الترويكا الأوروبية التي انتقلت من لهجة التصعيد الأسبوع الماضي على خلفية بيانها حول النشاطات النووية لإيران وخرقها للاتفاق النووي، إلى لغة أكثر دبلوماسية في اجتماع وزراء خارجية هذه الترويكا الذي عقد في برلين يوم الاثنين الفائت، تقوم على الدعوة إلى تحديد الأولويات الإيرانية بين شروط العودة الأميركية إلى الاتفاق والعودة إلى تطبيق التزاماتها بالاتفاق، وبين التراجع عن الخطوات التي اتخذتها في تقليص تعهّداتها.
روحاني يحاول وضع أيّ خطوة في اتجاه عودة الحوارات بين طهران وواشنطن خارج إطار المزايدات الداخلية الانتخابية والحزبية، خصوصاً أنّ أيّ تحرّك أو مبادرة في هذا السياق “لن تكون بعيدة عن توجّهات وإرشادات قائد الثورة”
في مقابل هذه الخطوات أو الأجواء التي تحمل رياحاً إيجابية من واشنطن وأوروبا، فإنّ الانقسام الداخلي الإيراني حول التعامل مع هذه المستجدّات، أصبح أكثر بروزاً في الأيام الأخيرة. فروحاني لم يتردّد في الإعلان عن “فرحه” لخسارة ترامب في الانتخابات لصالح بايدن، واعتبار ذلك، وبلغة فيها الكثير من التحدّي لبعض الأطراف الداخلية، وبكثير من الوضوح: “فرصة” لإيران للخروج من نفق العقوبات والأزمات التي تسبّبت بها، ودعوة لقيادة النظام والإدارة العميقة فيه إلى اغتنام هذه الفرصة وعدم إضاعتها ووجوب “الاستفادة من أيّ فرصة تعزّز المصالح القومية وتلغي العقوبات”. روحاني يحاول وضع أيّ خطوة في اتجاه عودة الحوارات بين طهران وواشنطن خارج إطار المزايدات الداخلية الانتخابية والحزبية، خصوصاً أنّ أيّ تحرّك أو مبادرة في هذا السياق “لن تكون بعيدة عن توجّهات وإرشادات قائد الثورة”.
هذا الموقف من روحاني الذي أعلنه أمام الحكومة يوم الأربعاء الفائت، أسقط كلّ المقولات التي تمسّك بها التيار المحافظ، وبناها على موقف المرشد الأعلى الذي أعلن بكل وضوح أن “ليس مهمّاً لإيران من يفوز في الانتخابات الأميركية. فالملاك (المعيار) في الأمر هو سياسات هذا البلد”، لصالح اعتبار انتصار بايدن أمراً مهمّاً ومفصلياً، من دون الأخذ بعين الاعتبار عدم اتّضاح الصورة التي ستكون عليها سياسة ومواقف إدارة الرئيس الجديد، وكيف ستتعامل مع مختلف الملفات العالقة بينها وبين إيران.
دفع هذا بالتيار المحافظ ومسؤوليه إلى رفع مستوى التوجّس من الخطوات التي يمكن أن يقوم بها روحاني وفريقه التفاوضي في المرحلة المقبلة. والحديث عن “حرق الفرص وإضاعتها”، يكشف عن وجود نيات لدى المحافظين بأن يقبلوا العودة إلى طاولة التفاوض من دون التمسّك بالشرط المسبق الذي تمسّك به النظام، وهو اشتراط إعلان واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي، وتعويض الخسائر التي لحقت بإيران جرّاء العقوبات، والاعتذار عن كلّ الإجراءات التي قامت بها إدارة الرئيس السابق ضدّ المصالح الإيرانية.
إقرأ أيضاً: شبهات لأصابع أميركية: نتنياهو قتل “مطوّر الصواريخ البالستية”
هذه الهواجس لا تأتي من فراغ، فالمؤشرات التي تصل من واشنطن وعواصم القرار الأوروبي غير مشجّعة. فريق الإدارة الخارجية والأمن القومي للرئيس بايدن لن يكون متساهلاً في اغتنام فرصة الإرث الترامبي في محاصرة إيران وتوظيفها للحصول على تنازلات في الملفات الاقليمية، خصوصاً أنّ سوليفان (الأمن القومي) وبلينكن (الخارجية) كانا في الفريق المفاوض من المتمسّكين بضرورة الحصول على تنازلات إيرانية في الملفات الإقليمية، خصوصاً ما يتعلّق بالدور الإيراني في كلّ من سوريا والعراق. وهما يعتقدان أنّ الاستراتيجية الأميركية قد تشدّد على قيام طهران بالخطوة الأولى لتخفيف التوتر القائم بالعودة إلى تنفيذ كلّ بنود الاتفاق النووي، والتخلّي عن خطواتها في تقليص التزاماتها، والقبول بمبدأ التفاوض من أجل توسيع دائرة الاتفاق النووي، قبل إعلان واشنطن العودة إلى الاتفاق وإلغاء العقوبات التي يمكن أن تنتهي بقرارات تنفيذية يصدرها الرئيس الجديد.