لم تكن كركوك، وهي مدينة النفط الأقدم في العراق، يوماً ما مدينة كردية. كانت مدينة الجميع، تركماناً وأكراداً وعرباً. قبل ما سُمّي بحركة تعريب المدينة كان هناك عرب هم من سكّانها الأصليين. وقبل محاولة تكريدها كان هناك أكراد وُلد أجدادهم فيها وساهموا في بنائها وازدهارها. أمّا التركمان فلا مدينة لهم سواها. لذلك كان البعض يعتبرها مدينة عراقية بأغلبية تركمانية. لكنّ الطابع الفسيفسائي جعل منها عراقاً مصغّراً، وعنواناً للعيش المشترك.
حين وُضعت كركوك ضمن المناطق المتنازَع عليها حسب المادّة 140 من دستور عام 2005 حدث انقلاب زلزل التوازن الذي كان قائماً على التراضي والتفاهم الشعبي في إطار مواطنة عراقية غير مشكوك فيها. ذلك لأنّ مفهوم المناطق المتنازَع عليها لا يُطبّق إلّا بين الدول. أمّا أن يكون مجالاً للخلاف الجغرافي بين العراق والإقليم الكردي الذي يُفترض أنّه جزء منه فإنّ ذلك يثير الشبهات. ولا أدري كيف قبِل زعماء الأحزاب الشيعية بتمرير تلك المادّة، وقد كانوا حاضرين في لجان صياغة الدستور الذي يُقال إنّه أُحضر من الولايات المتحدة جاهزاً وكانت تواقيع العراقيين عليه إجراء صوريّاً كان الغرض منه إضفاء نوع من الشرعية على دستور كُتب في ظلّ الاحتلال.
كركوك ضحيّة دستور مشبوه
بموجب ذلك الدستور غير الشرعي الذي دعت المرجعيات الدينية العراقيين إلى الموافقة عليه، صارت كركوك ضحيّة لمؤامرة ستضعها في مزاد متهالك السمعة. فإن تخلّت عنها بغداد فسيضيع تاريخها كلّه في غمرة التكريد العنصري وستكون جزءاً من دولة لا علاقة بنيوية تربطها بها. سيكون الأكراد حكّامها وسيتعاملون مع سكّانها باعتبارهم جاليات مقيمة على أرضها ويمكن طردهم في أيّة لحظة. أمّا لو تمسّكت بها بغداد فستكون مجالاً خصباً للنزاعات التي هي تمارين على حرب أهلية. في الحالين سيذهب أهل كركوك إلى العدم.
تحوّل أهل كركوك إلى رهائن. بدلاً من الشعراء والكتّاب الذين صاروا جزءاً من تاريخ العراق الثقافي حلّ حمَلة السلاح الجهَلة الذين يملأون ليلهم رصاصاً
لقد صُدم أهل كركوك بعراق جديد منقسم على نفسه وغير راغب في أن يكون موحّداً بعدما كسر المرآة التي تُظهره بلداً متعدّد القوميات والأديان حين وضع مدينتهم على لائحة مزاد، تنظّمه الميليشيات، وفي مقدَّمها الحشد الشعبي الشيعي والبيشمركة الكردية، لتكون في النهاية ساحة حرب لن تنتهي إلّا بعد أن تسلّمهم إلى العدم. وليس مستبعداً أن تكون نهاية العراق محكومة بقطع كركوك من خارطته لتكون جزءاً من خارطة دولة كردية لن ترى النور في ظلّ يقظة الذئبين الشرسين، الإيراني والتركي. وهو ما يعني أنّ كركوك التي سيتمّ تمزيق وحدتها الاجتماعية ستشهد اندلاع شرارة حرب أهلية، لا الأكراد قادرين على تحمّل تكلفتها ولا الحكومة الشيعية في بغداد قادرة على حسمها لمصلحتها.
أهل كركوك وقد صاروا رهائن
مَن وضع كركوك على قائمة المناطق المتنازَع عليها كان على دراية بكلّ ذلك. كانت جريمة مدبّرة خُطّط لها لكي لا يخرج العراق من متاهة الفساد. ذلك لأنّ وضع كركوك سيكون دائماً محوراً لأزمة لا تنتهي. وإذا ما كانت الأحزاب الكردية تُدير الأزمة لمصلحتها فإنّ الأحزاب الشيعية من خلال الحكومة التي لا تفرض سيطرتها على الأراضي العراقية إلا عن طريق الانتقاء لا ترى أنّها ستخسر إذا سمحت للحزبين الكرديّين بأن يتقاتلا من أجل الاستيلاء على كركوك. تلك فكرة شيطانية سيخسر بسببها العراق الكثير من سيادته وسيكون أهل كركوك حطب نارها.
في الماضي لم تكن هناك مشكلة وطنية. لسنوات طويلة كانت كركوك المصدر الوحيد لثروة العراق. اليوم تبدّلت الأمور بعد اكتشاف النفط في مناطق هي أكثر غنى من كركوك. ولكنّ كركوك ظلّت ترمز لوحدة العراق من خلال تمسّك أهلها بتاريخ العيش المشترك والتربية الوطنية. كان أبناء المدينة يتحدّثون ثلاث لغات بطلاقة وقبلتهم بغداد. أمّا الآن وقد وُضعت مدينتهم في المزاد وشعروا أنّ العراق من خلال دستوره الجديد صار ينظر بعين الشكّ إلى انتماء مدينتهم إليه فإنّهم سيعيدون النظر في ما ترسّب في أذهانهم من أفكار وطنية وسيلعنون الساعة التي كانوا فيها عراقيين.
إقرأ أيضاً: تمارينُ الشقاء… في كرسي على دجلة
تحوّل أهل كركوك إلى رهائن. بدلاً من الشعراء والكتّاب الذين صاروا جزءاً من تاريخ العراق الثقافي حلّ حمَلة السلاح الجهَلة الذين يملأون ليلهم رصاصاً. وبدلاً من الأخوّة التي كانت عنواناً للمواطنة حلّت الكراهية التي تنتظر فرصتها للانقضاض على ما بقي من العراق. فـ”كركوك” هي مركز العراق الحيّ وليست بغداد. إن نجت كركوك من الانفصال يبقى العراق مثلما نعرفه على الخارطة. وأمّا إذا انفصلت عنه فسيضيع العراق إلى الأبد.
*كاتب عراقي