من المعروف أنّ القاعدة الأساس في عمل حزب الدعوة في العراق هي قاعدة “المرحلية”، سواء كان ذلك في العمل الدعوي أو السياسي أو الاجتماعي، وتعدّد المراحل في العمل توصل إلى المرحلة النهائية أو المرحلة النتيجة وهي التمكين. من هنا يمكن العودة إلى الموقف الواضح والصريح الذي أعلنه زعيم ائتلاف دولة القانون الأمين العامّ لحزب الدعوة ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في صيف عام 2022 حول العملية السياسية وتشكيل السلطة وانتخاب رؤساء السلطات الثلاث، عندما قال بحزم إنّ التغيير المطلوب في الرئاسات سيطال المواقع الثلاث السيادية، أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، وهو ما يعني إخراح برهم صالح ومصطفى الكاظمي ومحمد الحلبوسي.
استطاع تحالف “الإطار التنسيقي” من فرض أجندته في رئاستَي الجمهورية والحكومة، وانتخاب كلّ من عبداللطيف رشيد للجمهورية كمرشّح عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على حساب مرشّح البارزاني والحزب الديمقراطي ريبر أحمد البارزاني كترجمة أوّلية لمسار محاصرة إربيل وتغوّل تأثير نفوذها في الإقليم وبغداد. ثمّ انتخاب السوداني لرئاسة السلطة التنفيذية كمرشّح عن “الإطار التنسيقي” على حساب جعفر الصدر مرشّح زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
في المقابل، لم يجد “الإطار” الظروف المناسبة لاستكمال دائرة الاستبعاد واستكمالها بإخراج محمد الحلبوسي من رئاسة السلطة التشريعية، وفضّل التعامل معه مرحلياً واستيعابه بانتظار الفرصة المناسبة، خاصة أنّ الحلبوسي استطاع حشد موقف صلب داعم للمكوّن السنّي من جهة، وأنّ “الإطار التنسيقي” لم يقدر على تسويق بديل له من بين الشخصيات المتحالفة مع “الإطار” من جهة أخرى، بالإضافة إلى قدرته على توظيف مظلّة عربية وإقليمية لحماية نفسه من أيّ استهداف له.
ارتفع منسوب الخوف من الحلبوسي مع التحضيرات لانتخابات المحافظات، وما تعني سيطرته عليها من الإمساك بالقرار المالي والتنموي فيها على حساب الآخرين
توسّع نفوذ الحلبوسي
التسوية السياسية التي شارك فيها الحلبوسي إلى جانب مسعود البارزاني والتي أنتجت التركيبة السياسية في السلطات الثلاث وتوزيع المحاصصة بينها، لم يكن لها أن تستمرّ في ظلّ النفوذ الواسع والكبير الذي استطاع الحلبوسي تحقيقه من خلال استغلال موقعه في رئاسة السلطة التشريعية، ووصل إلى درجة أنّه أعلن بوضوح العمل على إقصاء جميع منافسيه داخل المكوّن السنّي على طريق بناء التفرّد في زعامة هذا المكوّن والتحكّم بكلّ تفاصيله على حساب الآخرين. وقد ظهرت المؤشّرات إلى هذا التوجّه في الانتخابات البرلمانية المبكرة عندما سعى إلى الاستحواذ على كلّ مقاعد المكوّن وحاول إقصاء الآخرين عن المشاركة في حكومة التسوية بقيادة السوداني.
ارتفع منسوب الخوف من الحلبوسي مع التحضيرات لانتخابات المحافظات، وما تعني سيطرته عليها من الإمساك بالقرار المالي والتنموي فيها على حساب الآخرين. وشكّل كلامه عن أنّه “سيجلسهم في بيوتهم” حافزاً لكلّ القوى السنّية المختلفة معه، وأيضاً لكلّ القوى السياسية في بغداد، للعمل على الحدّ من تغوّل هذه السلطة وما يمكن أن تؤدّي إليه من فرض معادلات جديدة، خاصة أنّ الحلبوسي ذهب إلى الاستخفاف بكلّ المواقع والإجراءات، إلى حدّ أنّه سمح لنفسه بالتدخّل في صلاحيات القائد العام للقوات المسلّحة ومحاولة فرض موالين له على رأس القوى العسكرية في المحافظات السنّية، خصوصاً في الأنبار، وأن يطرد من مكتبه رئيس هيئة النزاهة ومكافحة الفساد حيدر حنون، وتعتبر هذه الهيئة أعلى سلطة رقابية في العراق، وذلك على خلفية رفض التعاون في ملفّات فساد مالي وإداري.
الأميركيّون يتدخّلون
على الرغم من وصف المالكي لقرار المحكمة الاتحادية بالزلزال، وعلى الرغم من منسوب القلق الذي عاشت فيه القيادات العراقية بسبب التداعيات الأمنية والسياسية المحتملة لقرار المحكمة، إلا أنّ هذه القوى السياسية قد لا تخفي ارتياحها لما نتج عن هذا القرار، الذي أزاح عن كاهلها عبئاً ثقيلاً شكّله الحلبوسي الذي استطاع استقطاب مظلّة عربية خليجية وإقليمية كردية وبعض الدعم الدولي لموقعه ودوره. جاء قرار المحكمة الاتحادية ليتوّج المسار الذي بدأته هذه القوى لمحاصرة الحلبوسي من بوّابة ملفّات الفساد، وبالتالي توجيه الضربة القاضية لدوره السياسي، خاصة أنّ تهمة المسّ بالشرف (التزوير) تعني حرمانه من تولّي أيّ موقع رسمي وسياسي في الدولة.
ربّما القلق الأكبر والأساس الذي عاشته القيادات السياسية العراقية هو أن يؤدّي قرار المحكمة الاتحادية إلى تراجع التأييد أو سحب المظلّة الدولية والإقليمية عن العملية السياسية والحكومة التي شكّلتها بقيادة السوداني، فضلاً عمّا يمكن أن يصدر عن الحلبوسي من قرارات قد تطيح أو تربك على الأقلّ عمل السلطتين التنفيذية والتشريعية، من خلال استقالة الوزراء المحسوبين عليه ونواب كتلته البرلمانية.
إذا ما كانت الحكومة قادرة على استيعاب استقالة الوزراء باللجوء إلى إجراء داخلي بتكليف وزراء آخرين لتسيير عمل الوزراء المستقيلين بالوكالة بانتظار الاتفاق على بدلاء لهم مع قوى المكوّن السنّي، وإذا ما فعل البرلمان على غرار ما فعل مع استقالة نواب التيار الصدري بإحلال البدلاء عنهم من غير الفائزين، فإنّ الخطوة الأولى على طريق استيعاب تداعيات هذا القرار جاءت من البرلمان الذي حسم موقفه واستبعد عن جدول أعماله أي توجّه للدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة في السنة المقبلة 2024، بل عمد في خطوة تصبّ في مساعي تجاوز أيّ من هذه التداعيات إلى مناقشة التعديلات المقترحة على قانون الهيئة المستقلّة للانتخابات الذي يسمح بتسهيل عملها للإشراف على انتخابات مجالس المحافظات الشهر المقبل كانون الثاني، وانتخابات برلمان إقليم كردستان في صيف 2024.
بدأت الإدارة الأميركية عبر سفيرتها في العراق ألينا رومانوسكي، انطلاقاً من حرصها على عدم حدوث خلل في الاستقرار الهشّ على الساحة العراقية قد يطيح بالتفاهمات التي نسجتها مع الفاعل الإيراني على هذه الساحة، سلسلة لقاءات سريعة بهدف استيعاب ردّات الفعل، من دون أن تسقط في كلامها مع رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان الأبعاد السياسية لقرار المحكمة الاتحادية، إلا أنّ لقاءها مع الحلبوسي يبدو أنّه كان الأكثر حسماً في ضبط الأوضاع وقطع الطريق على الانجرار إلى تفلّت أمني قد يطيح بالاستقرار والعملية السياسية، خاصة بعد انهيار أمني واضح شهدته محافظة الأنبار ليلة الإعلان عن القرار.
إقرأ أيضاً: السوداني بين المرشد وبلينكن: “تحديد” قصف قواعد أميركا
إذا ما كانت القوى السياسية في المكوّن السنّي قد تداعت لعقد لقاءات لبحث المستجدّات بعد استبعاد الحلبوسي، وسعت إلى مشاركة نواب كتلة رئيس البرلمان السابق والمستبعد “تقدّم”، فإنّ هذه الخطوة تشير بوضوح إلى سعي هذه القوى لاستيعاب الحدث والتعامل مع نتائجه، فضلاً عن العمل لوضع آليات انتخاب بديل للحلبوسي في رئاسة البرلمان.