إسرائيل: تفوّق عسكريّ وبروباغندا فاشلة

مدة القراءة 7 د


تفوّق الآلة العسكرية الإسرائيلية وقوّة نيرانها في حرب غزّة لا يتناسبان مع الأداء المتواضع للماكينة الإعلامية والترويجية الإسرائيلية التي لا تزال تنتهج أسلوباً تقليدياً في الدعاية، خصوصاً من قبل دولة تفاخر بأنّها “بلد الشركات الناشئة” التقنية المتقدّمة، مقابل تطوّر نوعي من قبل مؤيّدي وجهة النظر الفلسطينية الذين استفادوا إلى حدّ كبير من شبكات التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة لنشر مضمون لاقى صدى في العالم الغربي.
الدعاية الإسرائيلية على جري العادة تركّز على استمالة الرأي العامّ الغربي من خلال وسائل الإعلام الغربية التقليدية. وفي السابق تفوّقت الدعاية الإسرائيلية من خلال نفوذ مؤيّدي إسرائيل في الإعلام الغربي الفاعل، فكانت تقدّم متحدّثين يتقنون لعبة الإعلام ويعرفون كيفية مخاطبة العقل الغربي، فكانت السردية الإسرائيلية هي الرائجة والمسيطرة. لكن في الحرب الأخيرة فشلت إسرائيل حتى الآن بإقناع الرأي العام العالمي بأنّ حماس لديها مقرّ قيادة تحت مستشفى الشفاء. فكانت الأدلّة والصور التي عرضتها مدعاة للسخرية من قبل الإعلام الغربي وعلى شبكات التواصل.
بعدما تزايدت الانتقادات الغربية لإسرائيل من قبل إعلاميين مؤثّرين في الرأي العام، بدأت تظهر فيديوهات تعتمد على التهكّم والتشهير بهؤلاء من خلال أسلوب كوميدي يشبه البرامج الليلية الكوميدية التي تلاقي رواجاً كبيراً في الولايات المتحدة. ولم تركّز إسرائيل يوماً على مخاطبة الرأي العامّ العربي مع أنّها أخيراً بدأت تعرض على وسائل الإعلام العربية متحدّثين باللغة العربية وناطقين رسميين ليعرضوا وجهة نظر إسرائيل، لكنّ أداءهم بقي دون المستوى مقارنة بهؤلاء الذين يدافعون عن وجهة النظر الإسرائيلية في الإعلام الغربي، وهو ما يؤدّي إلى استخفاف إسرائيل بالإعلام العربي.

الدعاية الإسرائيلية على جري العادة تركّز على استمالة الرأي العامّ الغربي من خلال وسائل الإعلام الغربية التقليدية

استفاد الخطاب العربي الفلسطيني من التقنيات الحديثة لنشر وجهة نظر الفلسطينيين. كما أنّ المضمون تطوّر من لعب دور الضحية ونظريات المؤامرة وجلد الحكومات العربية لتقاعسها عن نصرة الفلسطينيين إلى خطاب يحاول شرح المعاناة الفلسطينية بأسلوب غربي أقلّ عاطفية. كما أنّ خبرة الشباب في كيفية التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي ضاعفت القدرة على التأثير.

دور الإعلام الحديث
لقد أظهرت الحرب الحالية في غزّة من دون أيّ شكّ تأثير وسائل التواصل الاجتماعي العميق على النزاعات المعاصرة. فتحوّلت منصّات مثل إكس، تويتر سابقاً، وفيسبوك وتيك توك إلى ساحات للرواية والدعاية، حيث تقدَّم تحديثات فورية ووجهات نظر متنوّعة. كما يستخدم الناشطون هذه المنصّات لمشاركة تجاربهم المباشرة وصور من خطوط المواجهة، مقدّمين رواية “خام”. لكنّ ذلك لا يأتي من دون تحدّيات أبرزها المعلومات المضلّلة التي تعتمد على التقنيات الحديثة والذكاء الصناعي من أجل التضليل وإثارة الغرائز.
خلال الحرب في غزّة، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة رئيسية للحرب النفسية، حيث تفوّقت السردية الفلسطينية على التفوّق العسكري الإسرائيلي بعد ظهور صور الدمار وقتل الأطفال في غزّة، فتحوّل الصراع المتعدّد الأوجه إلى ما وراء ساحات المعارك الفعليّة، إلى عوالم الرأي العامّ وتشكيل الوعي السياسي.
الطرفان يعتمدان على الأسلوب نفسه في استراتيجياتهم الرئيسية التي تتضمّن نشر محتوى مشحون عاطفياً. وتتمّ مشاركة الصور والفيديوهات التي تصوّر أهوال الحرب، معاناة المدنيين، والأفعال البطولية لإثارة التعاطف، الغضب، أو التضامن. غالباً ما ينتشر هذا المحتوى بسرعة، مؤثّراً في الرأي العامّ في العالم.

التضليل الإعلاميّ
جانب آخر من هذه الحرب النفسية هو نشر المعلومات المضلّلة والدعاية. يستخدم كلا الطرفين وسائل التواصل الاجتماعي لإصدار بيانات، أحياناً تكون غير موثّقة أو مبالغاً فيها، لتحويل الرأي العامّ وتشويه صورة الطرف الآخر. التحدّي الذي يواجه المستخدمين هو التمييز بين الحقيقة والتلاعب وسط هذا الفيض من المعلومات. أمّا الإعلام التقليدي الغربي، فأصبح أشدّ قسوة على الدعاية الإسرائيلية. وبدأ الصحافيون الغربيون يدقّقون أكثر بالرواية الإسرائيلية بعدما شعر هؤلاء بأنّ المسؤولين الإسرائيليين يستخفّون بعقولهم ويتصرّفون معهم بعنجهية وغرور.
تعمل وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً كمنصّة لتجميع الدعم وتنظيم الاحتجاجات أو الحملات. تصبح الهاشتاغات لافتات يتّحد تحتها الناس، مشاركين القصص وداعين إلى العمل. هذا لا يرفع الوعي فحسب، بل يضغط أيضاً على القادة السياسيين والمنظمات الدولية.

لقد ساعد هذا الوصول المباشر إلى المعلومات في تشكيل الرأي العامّ بشكل أكثر ديناميكية. أدّت الصور ومقاطع الفيديو الغرافيكية التي تمّت مشاركتها على هذه المنصّات إلى إبراز التكلفة الإنسانية للحرب، مثيرة ردود فعل عاطفية قوية في جميع أنحاء العالم. أعطت فوريّة هذه المشاركات إحساساً بالواقعية والإلحاح لدى الجمهور العالمي.
مع ذلك، فإنّ تأثير وسائل التواصل الاجتماعي هو سيف ذو حدّين. إضافة إلى إعطاء الفرد صوتاً فاعلاً، فإنّها تطرح أيضاً تحدّيات في التحقّق من دقّة المحتوى المشارِك.
علاوة على ذلك، فإنّ الخوارزميات وطبيعة انتشار محتوى وسائل التواصل الاجتماعي تعنيان أنّ بعض الروايات يمكن أن تبرز مؤثرةً في الرأي العامّ باتجاهات معيّنة. باختصار، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً حاسماً في التأثير في الرأي العام خلال الحرب الحالية في غزّة، وهو ما يسلّط الضوء على قوّتها في تشكيل الروايات في النزاعات المعاصرة.
لقد أُعيد تشكيل مشهد حرّية التعبير والصحافة بشكل جذري بفضل ظهور الإعلام الاجتماعي والرقمي. هذا التحوّل يصبح واضحاً بشكل خاصّ في أوقات النزاعات، مثل حرب غزّة مع إسرائيل. وإنّ دور هذه المنصّات الإعلامية الجديدة في تشكيل الرأي العامّ ونشر المعلومات معقّد ومتعدّد الجوانب، وهو ما يقود إلى إعادة تقويم المفاهيم التقليدية لحرّية التعبير وحرّية الصحافة.
لطالما اعتُبرت وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف والتلفزيون، حصوناً للصحافة الموثوقة. ومع ذلك، فقد شكّل صعود الإعلام الرقمي خلال حرب غزّة تحدّيات جدّية للإعلام التقليدي.
كان على وسائل الإعلام التقليدية أن تنافس الروايات الفورية والأكثر قرباً التي قدّمتها وسائل التواصل الاجتماعي. وضغَط هذا التنافس على بعض المنافذ الإعلامية لتكييف أساليب تقاريرها، مدمجة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي في تغطيتها لتوفير تقارير أكثر شمولية وفي الوقت المناسب.
بالمقابل، فإنّ وفرة المعلومات، إلى جانب تحدّي المعلومات المضلّلة، تؤكّد أهمية التحقّق من المعلومات. وأصبحت المنظمات المستقلّة للتحقّق من الوقائع، والمبادرات داخل وسائل الإعلام، حاسمة في ضمان مصداقية المعلومات. انتقلت مسؤولية التحقّق من المحتوى ليس فقط إلى هذه المنظمات، ولكن أيضاً إلى المستخدمين الأفراد، الذين كان عليهم التنقّل في مشهد معلوماتي معقّد من أجل تكوين صورة أكثر واقعية لحقيقة ما يجري.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تخسر دور الضحيّة

توفّر تجربة حرب غزّة في عصر الإعلام الاجتماعي والرقمي دروساً قيّمة لمستقبل حرّية التعبير والصحافة. وهو ما يسلّط الضوء على الحاجة إلى نهج دقيق في نشر المعلومات، يوازن بين الحاجة إلى حرّية التعبير والمسؤوليات التي تأتي معها. فمع استمرار تطوّر التكنولوجيا، ستتطوّر أيضاً الطرق التي يتمّ بها الإبلاغ عن النزاعات وفهمها.
المجتمعات الديمقراطية من حيث المبدأ تتأثّر بالرأي العامّ، خصوصاً إذا تحوّل إلى عنصر ضاغط يُجبر أصحاب القرار على تعديل أو تغيير في السياسة، لكنّ إسرائيل في السابق شكّلت استثناء، وظهر أنّها تمتلك مناعة في العواصم الغربية تحميها من العقوبات. لذلك قد تشكّل حرب غزّة فرصة للفلسطينيين إذا استطاعوا أن يحوّلوا التعاطف المستجدّ إلى أرصدة وأصول سياسية يمكن البناء عليها لنيل حقوقهم لا الاعتراف بها فقط.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…