لا يكاد يمرّ يوم في إسرائيل دون أن يتحدّث مسؤول أو تكتب صحيفة أو يخطب حاخام عن الحرب المقبلة مع مصر. فبعد نصف قرن من التحفّظ الإسرائيلي المعتاد تجاه مصر، تلاشى ذلك التحفّظ وبات الحديث عن حرب بين تل أبيب والقاهرة حاضراً ومتكرّراً.
لا يردّ المصريون على ذلك الكمّ الهائل من الهراء، لكنّ آذان القاهرة تسمع، وتنتظر.. وتستعدّ.
الحرب السادسة
خاضت مصر وإسرائيل خمس حروب في القرن العشرين، بينما لم يشهد القرن الحادي والعشرون أيّ حرب بينهما. كانت الحرب الأولى عام 1948، والثانية 1956، والثالثة 1967، والرابعة هي حرب الاستنزاف، والخامسة حرب 1973.
بينما وضعت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نهاية لتلك الجولات المتقاربة من القتال، واعتبرها الرئيس السادات “آخر الحروب”، لا يراها البعض في تل أبيب الأخيرة.
قالت صحيفة معاريف الإسرائيلية إنّ الحدود مع مصر مكشوفة، وعدد جنودنا هناك منخفض للغاية، وقبل أشهر قتل جنديّ مصري ثلاثة من جنودنا. وعلى ذلك يجب زيادة الميزانية، وإضافة لواءَيْن قتاليَّيْن بالكامل، بالإضافة إلى لواء للتدخّل السريع يعرف كيف يصل إلى الحدود مع مصر في وقت قصير.
حسب الصحيفة فإنّ “كلّ شيء في الشرق الأوسط هو وضع مؤقّت، فنحن لا نعيش في إسكندينافيا، ويجب أن نكون مستعدّين دائماً للحرب مع مصر”. بالتوازي مع صحيفة معاريف دعا أفيغدور ليبرمان، وزير دفاع إسرائيل السابق، إلى وضع ألوية قتالية على الحدود، والاستعداد للحرب مع مصر.
كان صوت الحاخامات أكثر تطرّفاً من الساسة، حيث تحدّث بعضهم عن خرافة إسرائيل الكبرى “من النيل إلى الفرات”، وراح أحدهم يهذي عن “تحرير سيناء المقدّسة من مصر، بعدما اقتربنا كثيراً من مجيء المسيح”.
سوف تستمرّ إسرائيل بالتحريض على مصر، لكنّها لن تجرؤ على المزيد، وسيستمرّ الساسة المتشدّدون بمزايداتهم
وسط ذلك كلّه جرت محاولات شحن اجتماعي ضدّ مصر، فكثر الحديث عن كراهية الرأي العامّ المصري لإسرائيل، وقالت صحيفة “يسرائيل هيوم”: “المصريون أكثر الشعوب العربية عداءً لإسرائيل، كما أنّ الرئيس السيسي هاجم تل أبيب عدّة مرّات، واتّهمها بارتكاب جرائم ضدّ سكّان غزة”.
حدود ساخنة
بعد قتلها أكثر من عشرين ألف شهيد نصفهم من الأطفال، وفوقهم 50 ألفاً بين جريح ومفقود، وتدميرها غزة بأسوأ ممّا حدث في الحرب العالمية الثانية، قامت إسرائيل بخطوات استفزازية متدرّجة عند الحدود المصرية، إذْ قامت بقصف محور صلاح الدين (فلادلفيا)، ونشرت الصحف الأميركية طلب تل أبيب من القاهرة نشر قوات إسرائيلية عند معبر رفح من الجانب الفلسطيني، بحجّة إحباط محاولات تهريب الرهائن إلى سيناء.
كما نشرت مراكز بحث إسرائيلية أوراقاً بشأن مخاطر بقاء أجزاء من أنفاق غزة داخل الأراضي المصرية، وأنّ تدميرها في الجانب الفلسطيني لا يضمن وقف تهريب السلاح إليها من الجانب المصري.
تحدّث الجيش الإسرائيلي عن بناء جدار مضادّ للأنفاق تحت الأرض بين غزة ومصر، وحصر التعامل بين قطاع غزة ومصر بمعبر رفح، واستبعاد معبر كرم أبو سالم على الحدود الإسرائيلية من التعامل.
نفى مسؤولون مصريون وجود أيّ أنفاق داخل مصر، كما نفوا ما يتردّد عن وصول أسلحة إلى غزة عبر أنفاق سيناء، التي تمّ تدميرها بالكامل.
على الرغم من النفي المصري واصل الإعلام الإسرائيلي القول بدعم مصر العسكري السرّي لحركة حماس، وكذلك السماح بالدعم الماليّ من خلال شخص سوداني يدعى عبد الباسط حمزة كان مقرّباً من الرئيس عمر البشير، ويدير أكثر من 2 مليار دولار، ويقوم بنقل الأموال إلى حماس. وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” إنّهُ يقيم في مصر، ويعمل في مجال تعدين الذهب، وله شراكة مع الحكومة المصرية في منجم للذهب، وقد فشل الموساد في متابعته عبر سنين.
نفى عبد الباسط حمزة ما ذكرته “يديعوت أحرونوت”، لكنّ الولايات المتحدة رصدت 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن تمويل حمزة لحماس.
شماتة إسرائيليّة في قناة السويس
تمرّ في قناة السويس سنوياً 35 ألف سفينة تحمل ما يعادل 10% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي. وهي ممرّ ملاحي لا غنى عنه، فلا طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا، ولا خطوط الطيران من آسيا إلى أوروبا، ولا الخطوط البرّيّة المكمّلة للخطوط البحرية بإمكانها منافسة طريق قناة السويس.
حصلت مصر على أعلى دخل للقناة في العام الفائت، وقارب عشرة مليارات دولار، وكانت تأمل أن يصل العائد إلى 15 مليار دولار، وصولاً إلى 20 ملياراً في السنوات القليلة المقبلة.
أدّت الضربات التي وجّهها الحوثيون في اليمن إلى نحو 17 سفينة شحن تجارية كانت متّجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، إلى اعتماد أكثر من 100 سفينة طريق رأس الرجاء الصالح بديلاً لقناة السويس. كما أنّ إسقاط مصر لعدد من الأجسام قرب إسرائيل، وذلك قرب مدينة دهب السياحية الشهيرة جنوب سيناء، أدّى إلى تأثّر طفيف في حركة السياحة بالمدينة المزدهرة على ساحل البحر الأحمر.
تتابع مصر تحالفاً أعلنت عنه الولايات المتحدة الأميركية لتأمين حركة السفن في باب المندب، وذلك عبر إيجاد ممرّ آمن لعبور السفن، بدلاً من اصطحابها في قوافل لحمايتها في أثناء المرور.
راح الساسة ووسائل الإعلام في إسرائيل يشمتون بمصر، ويروّجون لخسائرها الفادحة، التي تفوق خسائر إسرائيل، بسبب هجمات الحوثيين على الملاحة في باب المندب. وقالت صحيفة “يسرائيل هيوم” إنّ إغلاق المرور في البحر الأحمر يضع مصر في حصار بحريّ كامل، ومصر هي الضحيّة الرئيسية لانضمام الحوثيين إلى الحرب في غزة.
قالت صحيفة “غلوبال” الإسرائيلية: “الاقتصاد المصري سيتمّ سحقه تماماً بسبب هجمات الحوثيين على السفن التجارية. فالهجوم سيزيد من تصنيف المخاطر في القناة ويؤدّي إلى تخلّي العالم عنها كطريق بين الشرق والغرب، وإذا ما أضيفت أزمة القناة مع أزمة الديون المتفاقمة، وعدم وجود الدولار في مصر، فإنّ الخطر يصبح أكبر وأشدّ”.
الرأي نفسه ذهبت إليه صحيفة “هآرتس”، التي قالت إنّ مصر أصبحت الضحية الرئيسية لانضمام الحوثيين إلى الحرب في غزة، فخسارة مصر أكبر بكثير من خسارة إسرائيل.
قلّل الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس من خطورة الوضع على الملاحة في قناة السويس، بينما طالب الفريق مهاب مميش الرئيس السابق للهيئة بتوفير قوّة تأمين مصرية تتمركز في جنوب البحر الأحمر، وتصاحب قوافل السفن التي تمرّ من باب المندب. وقال إنّ لدى مصر قوة تأمينية على أعلى مستوى، وتستطيع حماية السفن.
فيما انضمّت مصر من قبل إلى تحالف بحريّ لحماية قوافل السفن قرب سواحل الصومال من أعمال القرصنة، غير أنّها انضمّت على الصعيد اللوجستي والمعلوماتي والاستخباري ولم تشارك بقوات بحرية ضمن القوات الموجودة. وتحاول القاهرة دراسة خطاها بدقّة شديدة إزاء الهجمات الحوثية في باب المندب. وترى أنّ الأمر يختلف عن الوضع في حالة القرصنة في الصومال: فما إن يتوقّف العدوان الإسرائيلي على غزة، حتى تتوقّف الهجمات الحوثية، ومن ثمّ فإنّ الحلّ السياسي في فلسطين هو حلّ نهائي لأزمة باب المندب.
مصر والحرب المقبلة
تواجه مصر تحدّياً كبيراً لم تسبق مواجهته منذ زمنٍ طويل، فالانقسام العميق في ليبيا، والحرب الأهلية في السودان، والسياسات المتعنّتة في إثيوبيا، واليمين المتطرّف في إسرائيل، والوجود الإيراني في المنطقة، هي كلّها عوامل ضغطٍ شديدة وخطيرة.
في إثيوبيا انتهى الملء الرابع للسدّ وسط فشل المفاوضات مع أديس أبابا. وفي السودان تتقدّم قوات الدعم السريع في بعض المحاور، ويعاني السودانيون أوضاعاً إنسانية مأساوية تنافس مأساة غزة، فالظلمات بعضها فوق بعض. وفي إسرائيل يدقّون طبول الحرب مع مصر، بينما تنتظر إيران لتجني حصاد أيّ مواجهة كتاجرٍ يتأهّب ليصفّق إزاء خسارة الجميع.
لا تريد مصر الحرب، لكنّها لا يمكنها أن تصمّ آذانها عن قرع طبولها. وهي، من دون شكّ، قادرة على خوض الحرب شمالاً أو جنوباً. أصبح الجيش المصري حاضراً في سيناء حتى الحدود، في تعديل بطيء وصامت لمعاهدة كامب ديفيد، إذْ تصطفّ الدبّابات المصرية على الحدود، وتوجد القوات المصرية في كلّ مكان.
تواجه مصر سياسات إسرائيل الهادفة إلى التهجير القسري بأكثر من طريق، وحسب موقع روسيا اليوم فقد قامت مصر بتغيير ملامح السياج الحدودي، كما تمّ بناء جدار خراساني من جديد بارتفاع 8 أمتار على طول الشريط الحدودي.
في معرض الصناعات الدفاعية في القاهرة 2023، استعرضت مصر صناعاتها العسكرية المتقدّمة، التي شملت أكثر من جيل من الطائرات بدون طيّار، كما شملت صناعة أول فرقاطة مصرية.
إقرأ أيضاً: إنّه الاحتلال يا غبيّ
حسب القناة العاشرة الإسرائيلية فإنّ تقدّم سلاح الجوّ المصري عمليّاتيّاً وتدريبياً، وتفوّقه الكبير يدعوان للقلق. بثّت القناة العاشرة الإسرائيلية تقريراً بعنوان “10,000 ساعة طيران إنجاز كبير لسلاح الجوّ المصري”، وقالت المحطة إنّ لدى مصر أوّل طائرة خارج فرنسا وصلت إلى 10,000 ساعة طيران، كما أنّ مصر تسعى حالياً إلى صناعة تلك الطائرة “الرافال” في مصر. وقد تمّ تأسيس مدرسة في حلوان للتدريب على صناعة الطائرات المقاتلة، بالتعاون مع شركة “داسو الفرنسية”. ومصر التي اشترت 54 طائرة رافال، ستقوم بتصنيعها لاحقاً في مصر. وهي بالإضافة إلى ذلك تمتلك طائرات أميركية وروسيّة وأوروبية لكسر احتكار السلاح، والقدرة على مواجهة الضغوط.
سوف تستمرّ إسرائيل بالتحريض على مصر، لكنّها لن تجرؤ على المزيد، وسيستمرّ الساسة المتشدّدون بمزايداتهم، وسيبقى الحاخامات المتطرّفون في ضلالاتهم. لكنّ حقائق الجغرافيا والتاريخ لا يمكنها أن تتغيّر. وستبقى إسرائيل دولة صغيرة.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة، والأمين العامّ لاتحاد كتّاب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@