التظاهرات الحاشدة التي تعمّ العواصم الغربية تأييداً للفلسطينيين، بعدما هال المجتمع الغربي صور الضحايا من الأطفال والمدنيين وحجم الدمار نتيجة الغارات والقصف الإسرائيلي لغزّة، حرمت إسرائيل من التعاطف الغربي الذي استفادت منه إسرائيل منذ نشوئها، والقائم على المظلومية التاريخية لليهود المتجذّرة في الوعي الغربي نتيجة ذاكرة الهولوكوست في العقل الأوروبي الجماعي إثر ما ارتكبته ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
في الأيام الأولى التي تلت هجوم حماس، نجحت إسرائيل بالحصول على تأييد المجتمع الدولي بعد انتشار صور الفيديو التي تظهر مقاتلي حماس يروّعون ويقتلون مدنيين إسرائيليين ويأسرون المئات ويأخذونهم إلى أنفاق غزّة. وفوراً بنَت إسرائيل حملتها لاستقطاب الدعم الدولي بالأسلوب نفسه الذي اتّبعته بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بإعلان أنّها تتعرّض مرّة جديدة لـ”حملة إبادة”، وروّجت أنّها وقعت تحت تهديد وجودي مستحضرةً الهولوكوست والـ”بوغروم”، وهو مصطلح يشير إلى أعمال الشغب والعنف الموجّهة ضدّ اليهود، خاصة في الإمبراطورية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وكانت تلك الأحداث تتميّز بالهجمات الجماعية على اليهود، وغالباً ما كانت تتضمّن نهب ممتلكاتهم وأعمال عنف جسدية، وأحياناً القتل.
حملات التضامن مع فلسطين
لكنّ هذا التعاطف الغربي، وبالأخصّ على مستوى الرأي العامّ، بدأ يتبدّد مع قيام الجيش الإسرائيلي بفظائع بحقّ المدنيين في غزّة بحجّة محاربة حماس وحقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها.
حملات التضامن مع الفلسطينيين والمطالبة بوقف النار وإقامة دولة فلسطينية اجتاحت العواصم الغربية بأعداد كبيرة، وخصوصاً في العاصمة البريطانية لندن، مدينة بلفور، صاحب الوعد الذي أسّس لقيام دولة يهودية في فلسطين.
بعد نهاية الحرب في غزّة سيكون أمام إسرائيل مشكلة كبرى في إعادة ترميم صورتها أمام الرأي العام الغربي
لم تقتصر التظاهرات المندّدة بالحصار وتدمير غزّة على مشاركة الجاليات العربية والفلسطينية في هذه الدول، وإنّما اللافت هو مشاركة شرائح كبيرة من المجتمعات المحلية وتحديداً التجمّعات اليسارية العلمانية والنقابيّة ونشطاء حقوق الإنسان.
في السنوات الأخيرة كانت برزت حركة مقاطعة إسرائيل في أوروبا والعالم، وهي تُعرف بـ”حركة مقاطعة، سحب الاستثمارات والعقوبات”، وتُختصر بـ”BDS”، وهي حركة عالمية تهدف إلى زيادة الضغط الاقتصادي والسياسي على إسرائيل لتحقيق أهدافها المتعلّقة بالقضية الفلسطينية. تشمل أنشطة هذه الحركة المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية لإسرائيل، إلى جانب الدعوة إلى سحب الاستثمارات وفرض عقوبات.
بدا واضحاً أنّ هذه الحركة هيّأت الأرضية للتحرّكات التي تشهدها العواصم الغربية، وذلك من خلال التنظيم والمضمون العقلاني والحجّة المنطقية التي تعتمدها في خطابها السياسي. وشكّلت هذه الحركة قلقاً كبيراً لإسرائيل، التي كانت تسعى بكلّ نفوذها في الصروح العلمية ولدى أصحاب القرار السياسي إلى الحدّ من نشاطها وصولاً إلى حظرها ومعاقبة من يلتزم دعواتها.
أميركا وجامعاتها أيضاً
أيضاً الولايات المتحدة شهدت تظاهرات حاشدة تنديداً بما تتعرّض له غزّة. لكنّ الأهمّ هو ما تشهده أحرام الجامعات الأميركية من صدامات يومية بين طلاب يناصرون القضية الفلسطينية ونوادٍ يهودية مؤيّدة لإسرائيل، وهو ما حدا بإدارات هذه الجامعات إلى تشكيل لجان طوارئ لمعالجة التوتّر الحاصل داخلها.
ما تشهده العواصم الغربية أمر غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فهذا التبدّل في الرأي العامّ الغربي سيلاقي صداه في الحكومات التي ستشكَّل مستقبلاً إذا ما عرف الفلسطينيون استغلاله.
ليس سهلاً في الغرب تسويق منطق أن ليس كلّ من ينتقد إسرائيل معادياً للسامية كما ليس كلّ من يدافع عن حقوق الفلسطينيين ويتضامن مع الضحايا المدنيين مؤيّداً لحماس، وليس بالأمر السهل سماعه في المنتديات والمجتمعات الغربية.
بعد نهاية الحرب في غزّة سيكون أمام إسرائيل مشكلة كبرى في إعادة ترميم صورتها أمام الرأي العام الغربي. فالأسلوب القديم ما عاد ينجح وهول الصور المنتشرة من قتل ودمار سيجعل من الصعب على إسرائيل استعادة دور الضحية.
نهاية الحرب… والحلّ السلميّ
قد تكون حماس نجحت في توحيد المجتمع اليهودي وتذكيره بالهولوكوست والمخاطر التي تهدّد وجوده، كما أنّ حكومة نتانياهو اليمينية المتطرّفة نجحت من خلال عملياتها الانتقامية في فرض القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي بعد سنوات من التجاهل والتغاضي.
المجتمع الدولي والعربي يحاولان إيجاد فرصة من خلال الأزمة الحالية من أجل إطلاق حلّ سلمي، لكنّ هذا التوجّه سيبقى بعيد المنال في ظلّ الجرح الفلسطيني الكبير والمخاوف الوجودية اليهودية المتجدّدة.
قد تؤدّي نهاية حكومة نتانياهو اليمينية المتطرّفة وضرب وتفكيك حماس عسكرياً إلى نشوء قيادات جديدة هي الأمل الوحيد لإطلاق عملية سلام جدّيّة مبنيّة على مبدأ إعطاء الفلسطينيين دولة قابلة للحياة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@