مئوية لبنان الكبير تذكّرني بسعيد عقل. الرجل مات، شأنه كشأن مصير البشر جميعاً. لكنه لم يمت إلا بعد ان تجاوز المئة. والمئة رقم ذهبي في مقياس الحياة. وهو الشائع في ما يتمنّاه البشر لأحبائهم في أعياد الميلاد: “عقبال المية”. وحينما بلغ سعيد عقل المئة، وجدتني أتساءل: ماذا سيقولون له وهم يقطعون قالب الحلوى؟ عقبال ماذا؟ مئتي عام؟ جسده بدا هزيلاً جداً لكي يحتمل مئة عام أخرى. لو قالها له أحدهم، لشعر سعيد عقل المهجوس بالأبد، أنّها دعوة خبيثة. لقد بلغ الشاعر الكبير المئة، وأربك المنطق بتجاوزها. ولا يذكّرني الاحتفال ببلوغ لبنان المئة إلا بهذا الإرباك الذي تركه سعيد عقل بعد احتفاله بتجاوزه الزمن المنطقي للعيش “الطبيعي”.
إقرأ أيضاً: أهل السنّة و”لبنانهم الكبير”..
طبعاً، سعيد عقل يعيش بعد موت جسده. يعيش بشعره وأفكاره الإشكالية، وما أراد حفره في الوجدان حول رؤيته المغالية للبنان. فلبنان سعيد عقل كان أبعد من حدود “لبنان الكبير” بكثير. ولم يكن مجرّد كائن، أو كيان، بل رآه بمثابة نهضة يريد منها تغيير العالم، واتضح لاحقاً أن لبنان غير قادر حتى على تغيير نفسه. من سرديات سعيد عقل حول القدرة اللبنانية على التأثير في العالمية قوله في محاضرة له في “الندوة اللبنانية”: “من أحقر مرفأ (طبرجا) خرج كائن عنيد (يقصد بولس الرسول) يزعم أنه ذاهب لدكّ سلطان روما. كيف؟ قال: لا بي، بل بما أحمل من حق. دكّها وحده… وبنى على أنقاض روما مملكة جديدة هي إلى اليوم سيّدة. إنه مرفأ لبناني. ما أجمله رمزاً لفتح روحيّ مقبل!”. من حسن الحظ أنّ سعيد عقل لم يعش إلى اليوم الذي انفجر فيه مرفأ لبناني آخر هو مرفأ بيروت، ولو أنّ أمنية الخبيث المفترض الذي تمنّى لسعيد عقل العيش مئتي عام قد تحقّقت، لكن الشاعر الكبير شهد انفجار الفكرة اللبنانية وتشظّيها. ولبنان كما نظّر له عقل، قائم على مفهوم التمدّد والاتساع، و”ضدّ مفهوم الجغرافيا”. ورفض عقل تصوير لبنان كبلد صغير، فهو “كما الله في اللاهوت، لا يقبل صفة خارجة عنه”. وبهذا المعنى، فإنّ لبنان سعيد عقل ليس كائناً ولا كياناً، بل إلهاً. وهو بالتالي مؤبد لا يموت. وعليه أيضاً هو لم يولد. ولا يمكن قياس عمره بالأعوام والسنوات. ولا يمكن أن تُطفأ له الشموع في كلّ عام. ولا أن يقال له “عقبال المية”. هذه أفكار الشاعر الحالم الميثولوجي الطوباوي. أما التاريخ، فيقول غير ذلك.
لبنان سعيد عقل كان أبعد من حدود “لبنان الكبير” بكثير. ولم يكن مجرّد كائن، أو كيان، بل رآه بمثابة نهضة يريد منها تغيير العالم، واتضح لاحقاً أن لبنان غير قادر حتى على تغيير نفسه
بالنسبة إلى فواز طرابلسي، فإنّ لبنان في حدوده المعيّنة في الأول من أيلول 1920 “لم يكن له وجود من قبل في التاريخ”، وهو نتاج “عملية التجزئة الكولونيالية الفرنسية- البريطانية للمشرق العربي”. وقد فرضت “حدود لبنان عليه فرضاً ضد إرادة أكثرية سكانه”. بهذا المعنى، فإن ولادة لبنان الكبير كانت “قيصرية”، ولم تكن “طبيعية”. واذا أخذنا في الاعتبار الرأي التاريخي القائل، على لسان المؤرخ كمال الصليبي، بأنّ نواة الكيان اللبناني تعود إلى العام 1667 عندما “أعاد الأمير أحمد المعني وحدة المناطق الدرزية وكسروان، برضى الدولة، فأصبحت هذه الوحدة نواة الكيان اللبناني الذي نشأ فيما بعد، بعد انضمام المناطق الشمالية إلى بلاد الإمارة في أواخر القرن التالي”، يتبدّى لنا أنّ الجنين بقي لوقت مديد في بطن التاريخ قبل ان تأتي “داية” الاستعمار وتوّلده قيصرياً بعدما تعذرت الولادة الطبيعية. وشأنه شأن “أولاد” المنطقة الآخرين، عاش لبنان طفولة ضائعة، ورضع “الديموقراطية” من ثدي الكولونيالية، ثم حبا ومشا وشبّ واستقلّ بنفسه في عمر الثلاثة والعشرين. وكان في هذا العمر الشاب ينازع بين موتين: “لبنان الصغير كموت اقتصادي، والاتحاد مع سوريا كموت سياسي”. والعبارة للمؤرخ اللبناني يوسف السودا. وإلى هذا النزاع، وجد الشاب لبنان أفكاراً تتنازعه من الداخل حول كيانه. لم تتفق أعضاؤه الداخلية على العمل بسلام وتعاون، فبدأ اضطراب الجسد، وبدأ الشاب يعاني مع تقدّمه في العمر من آثار النزاع على هويته وكيانه، وقد لخّص كمال الصليبي المعادلة القادرة على تجنيب الجسد اللبناني الموت والفناء: “لكي يتفق اللبنانيون على أن يعيشوا بسلام وتعاون كمواطنين في بلد واحد، فإنه لا بدّ لهم أولاً من التوصّل إلى إجماع حول ماهية الشيء الذي يجعل منهم أمّة أو دولة أو مجتمعاً سياسياً، ولا يمكن التوصل إلى هذا إلا إذا نجحوا في الاتفاق على نظرة مشتركة إلى ماضيهم”. وهذا ما لم يحدث. وهذا ما انفجر على الغالب داخل الجسد اللبناني في الحرب الأهلية اللبنانية. وهو ما يعود وينفجر، كما الجلطات الدموية، عند كلّ مفترق يعيد طرح مسألة الكيان، ويعيد النقاش حول الماضي.
إيمانيول ماكرون سيقف حائراً أمام قالب الحلوى الذي زُرعت فيه مئة شمعة (وعبوّة) تحترق وتذوي
في مئويته يعود ممثّل الكولونيالية و”الأم الحنون” إلى لبنان ليحتفل معه بمئويته. إيمانيول ماكرون سيقف حائراً أمام قالب الحلوى الذي زُرعت فيه مئة شمعة (وعبوّة) تحترق وتذوي. سيقف قبالة لبنان الهزيل، المريض، والعجوز، في إرباك شبيه بإرباك مئوية سعيد عقل. هل يكون ماكرون خبيثاً فيقول للبنان: “عقبال المئتين؟” مع كلّ ما يترتب على ذلك من عذاب وألم ومعاناة؟ أم يطفئ الشموع المئة ويترك العجوز المتعب من الزمن ليستسلم للدهر على كرسيّ هزّاز؟ أم تراه يذهب بعيداً مع سعيد عقل في تأليه لبنان: “فالله ليس كمية، إنه نوعية. وهكذا شأن لبنان.”