اختار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أن يكون خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خطاب الخلاصة. لم يترك مجالًا لعباراته أن تقع في فخ الضوابط الديبلوماسية، معتمداً استراتيجية الحزم الهادئ.
قدّم للعالم خلاصة عقود طويلة من التجارب المرّة مع إيران، ومحاولات خلق مساحات مشتركة معها ومع رؤسائها المتعاقبين..
كان واضحًا في تشخيص الدور التخريبي الذي يلعبه نظام طهران في المنطقة، لا بحقّ المصالح السعودية وحسب. لذلك، كان الملك أكثر وضوحاً في لفت نظر حكومات العالم إلى أن محاولات الاسترضاء لم توقف تهديدات هذا النظام للأمن والسلم الدوليين.
إقرأ أيضاً: الملك سلمان وما لا يجرؤ اللبنانيون على قوله
عبارة الاسترضاء لم تأتِ من فراغ أو من قاموس ارتجالي. كان سبق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن وصف عام 2017 المرشد الايراني، في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” بأنّه “هتلر جديد في الشرق الأوسط”.
وسياسة استرضاء هتلر باتت درسًا في السياسة الدولية ارتبط باسم رئيس وزراء بريطانيا آرثر نيفيل تشامبرلين الذي لم يفوّت فرصة لاسترضاء هتلر تجنباً لشرّه. فعقد تشامبرلين ونظيره الفرنسي إدوار دلالييه، بمشاركة من الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني، معاهدة ميونيخ مع ألمانيا النازية في نهاية سبتمبر 1938، التي سمحت لهتلر بضم منطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا ويقطنها ناطقون باللغة الألمانية.
ما يلفت لبنانياً، أنّ الملك خصّص في كلمته حيّزاً مهمًا للبنان، متضامناً مع شعبه في محنة انفجار المرفأ، ومعلياً سقف الهجوم السياسي على ميليشيا حزب الله، كأنّ لبنان بهذا المعنى جزء من إيران وليس جزءاً من نفسه
كان الهدف الساذج لشامبرلاين تجنّب اندلاع حرب عالمية ثانية نتيجة احتماء تشيكوسلوفاكيا بمعاهد دفاع مع الاتحاد السوفياتي، ما يعني أنّ أيّ حرب محتملة ستتحوّل إلى صراع مسلّح بين موسكو وبرلين!
أما هتلر، ففهم المنطق التسووي البريطاني، المسنود فرنسياً وإيطالياً، على أنّه خضوعٌ لسطوته، فقرّر دخول براغ مكمّلاً باتجاه بولندا، ما دفع ببريطانيا إلى الانعطاف في سياستها ضد هتلر. بيد أنّ شخصية شامبرلاين المتردّدة حالت دون أن تنتج هذه الانعطافة سياسة صارمة متناسقة تجاه هتلر، الذي ما لبث أن احتلّ النرويج، وهذا نتج عنه إطاحة شامبرلاين في لندن ليخلفه رئيس الوزراء التاريخي وبطل انتصار بريطانيا في الحرب العالمية الثانية وينستون تشيرشل في أيار 1940.
وبات شامبرلاين، مذاك، مثالًا يعطى للدلالة على الأثر المدمّر لسياسات الاسترضاء اليائسة في مواجهة دول أو كيانات لا تلتزم عن حق بقواعد العلاقات الدولية.
فإيران، كما يصفها كيسينجر، ثورة وليست دولة، ويغلب عليها طابع القضية أكثر مما يمكن التعامل معها وفق قواعد العلاقات الثنائية الكلاسيكية بين دول سيادية.
لم يختبر أحد هذه الطبيعة الإيرانية كما اختبرتها السعودية، التي لا مشروع خارجياً لها ولا نموذجًا تسعى لتصديره. وهي إن فعلت ذلك، فعلته كردٍّ عصبيّ على 3 تطوّرات استراتيجية كبيرة داخلها وفي محيطها حدثت خلال أشهر قليلة، قبل أربعة عقود:
1- الثورة الإسلامية في إيران، التي سرعان ما أعطت كلّ الإشارات عن نياتها العدوانية ضدّ المملكة عبر تشكيل “حزب الله الحجاز”.
2- احتلال جهيمان العتيبي للحرم في سياق محاولة استلهام النظام الإسلامي الايراني لبناء نظام إسلامي سنّي ثوري في المملكة.
3- الغزو السوفياتي لأفغانستان كنقلة استراتيجية من نقلات الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
أيّ حكومة لبنانية بعد خطاب الملك سلمان.. وأيّ تسوية ستنجح حيث لم تنجح سابقاتها والتي جرت كلها تحت عنوان بائس هو “ما هو البديل؟”
في مواجهة هذه الأحداث الخطيرة قرّرت المملكة، منذ العام 1979، أن تسلك درب التشدّد الديني ومفاقمة الاعتماد على الدين الإسلامي كالمصدر الأساس لشرعية لنظام، في مواجهة إيديولوجيا شيعية ثورية، وإيديولوجية إلحادية سوفياتية، وصحوات سنيّة في الداخل. وهي تجربة وجّه لها الأمير محمد بن سلمان نقداً علنياً راديكالياً وصل حدّ تصريحه في مقابلة أجراها معه الصحافي ديفيد أغناتيوس، عبر صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية: “لا نريد أن نُضيّع حياتنا في هذه الدوامة التي كنّا فيها طوال الـ 30 سنة الماضية بسبب الثورة الخمينية، والتي سبّبت التطرّف والإرهاب، نحن نريد أن ننهي هذه الحقبة الآن، نحن نريد – كما يريد الشعب السعودي – الاستمتاع بالأيام القادمة، والتركيز على تطوير مجتمعنا، وتطوير أنفسنا كأفراد وأسر، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ديننا وتقاليدنا، نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979”.
على عكس إيران إذًا، السعودية في عمق تكوينها دولة وطنية بمصالح محدّدة بشأن أمنها القومي، وبلسان هذه المصالح تحدّث الملك سلمان، الذي لا تسعى بلاده لتغيير النظام في إيران، بقدر سعيها الصادق والحازم لتغيير سلوكه تجاه مصالحها أوّلاً ومصالح حلفائها ومصالح الإقليم عمومًا، وقيادة الجهد السياسي والدبلوماسي لوقف سياسة الاسترضاء الأوروبية والعربية وبعض الأميركية تجاه طهران. هذا ما يفسّر الوضوح غير المسبوق في النصّ السعودي، أقلّه بصدوره المباشر عن الملك، لا عن الخارجية السعودية أو عن أيّ جسم سياسي أو سيادي آخر.
لم يبالغ الملك سلمان بقوله إنّ المملكة “مدّت أياديها للسلام مع إيران وتعاملت معها خلال العقود الماضية بإيجابية وانفتاح، واستقبلت رؤساءها عدةَ مرات لبحث السبل الكفيلة لبناء علاقات حسن الجوار والاحترام المتبادل، ورحّبت بالجهود الدولية لمعالجة برنامج إيران النووي”. وربما كانت حقبة الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني واحدة من أفضل تلك الحقب على مستوى الإمكانات التي حملتها للتفاهم بين الرياض وطهران، علي ما شهد رفسنجاني نفسه. ففي واحدة من تصريحاته التي أثارت الكثير من الردود عليه والانتقاد له، يقول رفسنجاني: “لو كانت علاقاتنا مع السعودية جيدة، هل كان الغرب يستطيع مقاطعة إيران؟”.
ولم توفر السعودية حتّى الرئيس محمود أحمدي نجاد من محاولاتها بناء الجسور مع إيران، فدعاه الراحل عبد الله بن عبد العزيز إلى مكة للمشاركة في القمة الاستثنائية الإسلامية ذلك العام، محتفياً بوصوله بالعناق وبالسير معاً بأيدٍ مشبوكة، وهي صور غزت وكالات الأنباء حول العالم.
الموقف السعودي هو خلاصة هذه التجربة الطويلة والمريرة التي لا يمرّ يوم إلا ويضاف إلى سجلّها بند جديد من بنود العدوان الإيراني كان آخرها ما كشفته الصحافة الألمانية من أنّ محرّكات ألمانية بيعت لإيران تم العثور عليها في حطام درونز حوثية استهدفت السعودية مؤخراً!!
ما يلفت لبنانياً، أنّ الملك خصّص في كلمته حيّزاً مهمًا للبنان، متضامناً مع شعبه في محنة انفجار المرفأ، ومعلياً سقف الهجوم السياسي على ميليشيا حزب الله، كأنّ لبنان بهذا المعنى جزء من إيران وليس جزءاً من نفسه.
قال الملك ما يقوله اللبنانيون سراً وعلناً: لا حلّ لنا بوجود سلاح حزب الله. وهي المرّة الأولى، بحسب متابعتي، التي يعبّر ملك سعودي عن ضرورة نزع سلاح حزب الله. وهنا لا بدّ من ملاحظة التوقيت العجيب لسلوك الاسترضاء الفرنسي، الذي رُمي بثقله على كتفي سعد الحريري، بعد أن كان الحريري نفسه قد رفع السقف عاليًا في اتجاه معاكس تماماً. تزامن خيار الاسترضاء الفرنسي مع أعنف هجوم سعودي على سياسة استرضاء إيران، وإنتهى بأن رضي القتيل وما رضي القاتل، مطالباً بالمزيد من المهانة السياسية والوطنية!
أيّ حكومة لبنانية بعد خطاب الملك سلمان.. وأيّ تسوية ستنجح حيث لم تنجح سابقاتها والتي جرت كلها تحت عنوان بائس هو “ما هو البديل؟”.
البديل هو الوضوح.. البديل هو بالاستماع العاقل لخطاب سلمان بن عبد العزيز.