في اليوم الأوّل من عام 2024، مرّ خبر على الشريط الإخباري لم يستأثر بكثير من الاهتمام: إنهاء عمل المحكمة الدولية الخاصّة بقتَلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وآخرين. وفي اليوم التالي استيقظت مدينة بيروت على نبأ اغتيال القائد الحمساويّ الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، ليشيّع من قلب بيروت في الطريق الجديدة إلى مثواه الأخير.
ترتيب القدر
لا رابط بين الخبرين سوى ترتيب القدر. لكنّ طيّ صفحة المحكمة الدولية كان التعبير الرمزي عن نهاية حقبة من تاريخ أهل السُّنّة في لبنان استمرّت زهاء 18 عاماً، كان دم رفيق الحريري خلالها هو العنوان الجامع للحركيّة السياسية في الطائفة. مظلوميّة ذاك الدم الذي أُهرق في وسط بيروت هي التي فجّرت ثورة 14 آذار، وأخرجت النظام السوري من لبنان، وصنعت الأغلبية النيابية في انتخابات 2005 و2009، وأبقت على كتلة سنّيّة متماسكة في انتخابات 2018. وهي التي حوّلت “تيار المستقبل” من حركة عابرة للطوائف (والدول) تدور حول شخص رفيق الحريري، إلى حزب له تنظيمه وكوادره في المجتمع السنّيّ.
ربّما هي الحقبة الأكثر صخباً في الاجتماع السياسي السنّيّ منذ تأسيس الوطن اللبناني الحديث. نزل أهل السُّنّة إلى الساحات وخاضوا الانتخابات ونظّموا أنفسهم في حزبٍ سياسيّ كردّ فعل على القتل الذي رأوا فيه اغتيالاً لوجودهم السياسي، ولإسهامهم في إعادة تعريف هويّة الوطن اللبناني وإنتاج ميثاقه الجديد في الطائف واستعادة إشراقته وألق عاصمته في الإقليم.
لا شكّ في أنّ صورة رفيق الحريري لا تزال عنواناً جامعاً يحرِّك الوجدان السنّيّ، بل إنّها خرجت من الانقسام في المجال العابر للطوائف لتصبح رمزاً لفاعليّة الدولة وقدرة المجتمع على النهوض من الركام، كنقيض للانهيار الاقتصادي والماليّ وفشل الدولة في النهوض بواجباتها في السنوات الخمس الأخيرة.
لا يستطيع سعد الحريري أن يكون سرّ أبيه، لا في الإمكانات ولا في الأدوات ولا في التجربة ولا في الظروف المحيطة
الحريريّة الوطنيّة
لكنّ “الحريريّة الوطنيّة” بهذا المعنى الشامل مختلفة عن التأطير السياسي الضيّق لرمزية رفيق الحريري. لم يعد جلب قتَلته إلى العدالة العنوان الصانع للسياسة، لا في “تيار المستقبل” ولا في المجال السنّي الأوسع، ولم يعد أهل السنّة يشكّلون وجودهم السياسي كنوع من الردّ على فعل القتل. أُطفئ ذلك المحرّك السياسي المركزي حين وقف سعد الحريري خارج مقرّ المحكمة الدولية في لاهاي بعد صدور الحكم في قضية الاغتيال ليحيل أوراق القضية إلى التاريخ، ويخرجها من صناعة السياسة اليومية. وطُويت تلك المرحلة رسمياً حين اعتزل الحريري الابن العمل السياسي قبل عامين، من دون أن تهتزّ لذلك أركان الطائفة.
في غمرة الحديث عن عودة مرتقبة له، وما تكتنفها من مبالغات وتمنيات، لم تتّضح حدودها بعد، يجدر النظر في ما عرى الطائفة منذ هجرته. جرت انتخابات نيابية عام 2022 بات بنتيجتها السُّنّة الطائفة الكبرى الوحيدة التي ليست لديها كتلة نيابية مركزية قادرة على المشاركة في صنع القرار. لم يكن ذلك ناتجاً عن فشل في التنظيم، بل عن غياب العنوان: ماذا تريد الطائفة؟ ما الشعار الذي يجمعها؟ الموارنة يحرّكهم الخوف من الذوبان في المحيط الإسلامي الكبير، والشيعة يحرّكهم الجموح إلى الإمساك بمفاصل الدولة بعد عقود من الحرمان والتهميش، والدروز يحرّكهم القلق الأقلّويّ، فما الذي يحرّك السُّنّة؟
السُّنّة وفلسطين
لم يكن حجم المشاركة في السلطة، بالمعنى الضيّق، عنواناً للحركة السنّية في أيّة مرحلة. كان الارتباط بالمحيط العربي عنواناً أساساً للحركة السياسية في أوساط الطائفة بين عامَي 1920 و1943، ثمّ برزت القضية الفلسطينية وأتى المدّ القومي العربي في الخمسينيّات والستّينيات من القرن الماضي، ثمّ دخلت منظمة التحرير الفلسطينية لتكون المؤثّر في صناعة السياسة في السبعينيّات حتى خروج أبي عمّار بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ومن ذلك الحين بدأت حقبة رفيق الحريري على مراحل، بدءاً بالمنح التعليمية والتقديمات الاجتماعية، وصولاً إلى اتفاق الطائف.
كانت صورة 14 آذار، على وجه التحديد، التظهير الرمزي للأثر الذي أحدثه رفيق الحريري في تاريخ السُّنّة. كانوا عماد الثورة الوطنية التي أنهت وصاية نظام بشار الأسد، بعدما كانوا قبل ذلك عماد صناعة الطائف ووقف الحرب وإعادة الإعمار، ثمّ الوقوف في وجه النظام الأمنيّ في سوريا ولبنان. كان ذلك دوراً يفوق بمراحل صورة مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا إلى جانب الجنرال غورو والبطريرك حويّك في حفل إعلان “لبنان الكبير” عام 1920، ويفوق دور رياض الصلح في إنتاج صيغة الوفاق الوطني في دستور 1943. صار السُّنّة صانعي السياسة، بقوّتهم الانتخابية في الداخل، وبامتدادهم الإقليمي في المحيط العربي وبقدراتهم الاقتصادية.
يعود سعد الحريري أو يسعى إلى العودة سبيلاً فيما تستعيد فلسطين حرارتها في وجدان الطائفة التي تركها قبل عامين. بعض أبنائها يحملون السلاح في وجه إسرائيل في الجنوب، وبعض فتيانها تُرفع صورهم شهداء في شوارع صيدا وبيروت وطرابلس والبقاع. وحتى المشايخ والشباب الذين كانوا يملأون وسائل التواصل الاجتماعي حماسةً للحريرية السياسية تجد كثيرين منهم في مزاج تصالحيّ مع الحزب تحدوهم “وحدة المعركة” في وجه إسرائيل.
يشعر سُنّة لبنان اليوم أنّهم في موقع الفعل في وجه إسرائيل، كما شعروا في 14 آذار أنّهم في موقع الفعل في صناعة الهويّة الوطنية. وليس تفصيلاً ذلك المشهد الجماهيري لتشييع العاروري من مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة. لا شكّ أنّه مشهد استرعى اهتمام الداخل والخارج. قد يبدو متيسّراً إمكان التوفيق بين العاطفة تجاه الحريرية والعاطفة تجاه فلسطين، لكن سبَقَ للعداء مع إسرائيل الممزوج بحرارة العاطفة الدينية أن صنع تنظيمات غيّرت المشهد السياسي في لبنان وغزة، وأتاحت لإيران أن تفرض لها موقعاً مختلفاً في المعادلات الاستراتيجية.
تفترض “الحريرية السياسية” أنّ هناك حاجة عربية ودولية إليها لملء الفراغ، لئلا تتجه الساحة إلى سبقتها إليه غزة، ولهذا تُقحَم عودة الحريري، ولو على سبيل التمني، بكلام عن التسويات الإقليمية. كما تفترض حاجة الجمهور السُنّي إلى إثبات الذات وتوحيد وجوده السياسي بعد شرذمة انتخابات 2022.
إقرأ أيضاً: سُّنّة لبنان والمنطقة: نهاية زمن الانكفاء…
غير أنّ سُنّة لبنان حالة مختلفة. ظل الاعتدال عماد هويتهم السياسية والاجتماعية منذ أن شكلت “المقاصد” عصب الثقافة العامة. ولا بد من التمعّن في حقيقة أنّ سنوات الحرب والفوضى لم تغير ذلك، وأنّ التنظيمات المسلحة لم تجد أرضاً خصبة للتحوّل إلى حركات شعبية. ينطبق ذلك بشكل أخصّ على كل الحركات المسلحة التي استثمرت فيها إيران تمويلاً وتسليحاً وتدريباً، من “حركة التوحيد” في طرابلس إلى “قوات الفجر” في الجنوب، وصولاً إلى “سرايا المقاومة” التي أسسها “الحزب” في كنفه.
وعلى أي حالٍ، لا يستطيع سعد الحريري أن يكون سرّ أبيه، لا في الإمكانات ولا في الأدوات ولا في التجربة ولا في الظروف المحيطة. لا بدّ من التذكير بموافقة الحريري على قانون الانتخابات الذي أفرز الواقع الجديد لتوازنات السلطة منذ عام 2018.
الافتراض الوحيد الذي يمكن الركون إليه هو أنّ العاطفة تجاه “الحريرية الوطنية” لم تتبدّل، لكن من يستطيع أن يراهن على تجربة مختلفة لـ”الحريرية السياسية”؟
لننتظر..
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@