لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً من أهدافه. الرئيس الأوكراني صار هو نفسه في فوهة المدفع. حلفاؤه في الغرب يراجعون دعمهم المفتوح له وباتوا يحضّرون لمقاربة جديدة تعبّر عن القلق من حرب استنزاف طويلة.
الغزو الروسي لجمهورية سوفيتية سابقة تطمح إلى الخروج من عباءة موسكو ودخول “الجنّة الأوروبية”، عزّز في البداية تماسك الاتحاد الأوروبي ووحدته، وأنعش الحلف الأطلسي بانضمام فنلندا والتمهيد لدخول السويد. أعطى الغرب فرصة لمعاقبة موسكو وإيلامها حتى تتخلّى عن طموحاتها التوسّعية والإمبراطورية.
بعد نحو سنتين من الحرب أفرغ فيها الغرب ترسانته من الأسلحة والذخائر، وأمدّ زيلينسكي بالمال الوفير والدعم المعنوي. لكنّه لم يرَ أيّ نتيجة فعّالة في الميدان. أوكرانيا لم تستعِد جزءاً معتبراً من أراضيها المحتلّة. في المقابل تجاوزت موسكو قطوع العقوبات ولم ينهَر اقتصادها كما توقّع كثيرون في المراكز المالية العالمية. وتمكّن فلاديمير بوتين من إحباط تمرّد قام به حليفه مؤسّس حركة “فاغنر” وفاجأ العالم بحصوله وسهولة انطلاقه من جنوب روسيا نحو موسكو. وفي أقلّ من شهرين قضى قائدها يفغيني بريغوجين في حادث جوّي غامض.
تراجع الحماسة الأوروبية
الحماسة الأوروبية بدأت تتضاءل إزاء الدولة الطالبة لعضوية الاتحاد وملء مقعد في بروكسل:
ـ بولونيا، الجارة الأقرب لها، أطلقت حكومتها تهديداً بوقف شحن الأسلحة إلى كييف إذا لم توقف أوكرانيا توريد الحبوب الرخيصة الثمن إليها لحماية مزارعيها.
ـ سلوفاكيا، الجارة الأخرى، التي كانت تعدّ الأكثر تضامناً مع كييف، تغيّرت السلطة فيها والنهج بعد فوز روبرت فيكو، السياسي الشعبوي الموالي لروسيا والمناهض لتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا.
أوكرانيا لم تستعِد جزءاً معتبراً من أراضيها المحتلّة. في المقابل تجاوزت موسكو قطوع العقوبات ولم ينهَر اقتصادها كما توقّع كثيرون في المراكز المالية العالمية
– المجر، الجارة الثالثة، عرقلت إقرار الاتفاق الذي توصّلت إليه القمّة الأوروبية والقاضي بحظر القسم الأكبر من واردات النفط الروسي وفرض عقوبات جديدة على موسكو حيث واصلت بودابست شراء الغاز السيبيري. وتزامن هذا مع مساعي رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لإحباط خطط تقديم المزيد من المساعدات المالية من الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا.
ـ ألمانيا بدأت تتحسّس، ومستشارها أولاف شولتس رفض إرسال صواريخ كروز إلى حليفتها، ولاقى رفضه تشجيعاً من الألمان في استطلاعات الرأي.
الحسابات الأميركية تبدّلت
أميركا التي غرّرت بكييف وحرّضتها على طلب الانضمام إلى الأطلسي وقدّمت لها الدعم الكبير من أجل جرجرة موسكو إلى محظور الحرب، بدأت تتغيّر وحساباتها تتبدّل:
ـ الكونغرس رفض مشروع قانون لتقديم مساعدات بقيمة 110 مليارات دولار لكييف. إدارة الرئيس جو بايدن انشغلت بتوجيه قوافل الدعم العسكري لإسرائيل في عدوانها على غزة على حساب كييف. ومقاتلات “ف 16” والصواريخ الباليستية لا تزال في الحظائر الأميركية.
ـ ثمّة تيّار قوي في الولايات المتحدة لا يريد استمرار الحرب ولا يريد إرسال المزيد من الأموال من أجل حروب الآخرين.
ـ تعالت أصوات تدعو إلى فرض السلام بما يعني إرغام كييف الضعيفة على الإذعان لمطالب موسكو القويّة والتخلّي عن أجزاء واسعة من أراضيها.
– حملة مركّزة على عمليات الفساد، وتلويح البيت الأبيض باحتمال ربط المساعدات الاقتصادية المستقبلية بإصلاحات لمعالجة الفساد ليس في قدرة حكومة زيلينسكي إجراؤها.
زيلينسكي في مأزق، وبوتين يراهن على الوقت والهدايا غير المتوقّعة، على غرار حرب غزة
– عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أمر وارد. إذا ما حصل ذلك فسيعني إنهاء الدعم الأميركي لأوكرانيا.
أوروبا لا يمكنها أن تحلّ محلّ أميركا. يصعب على الدول الأوروبية تعويض الدعم الأميركي. واشنطن قدّمت وحدها ما يقرب من 50 مليار يورو (52.8 مليار دولار) كمساعدات عسكرية في حين قدّمت ألمانيا مساعدات عسكرية لكييف بقيمة حوالي 12 مليار يورو.
يضاف إلى ذلك تقارير عن خلافات واسعة بين القادة السياسيين والعسكريين وإقالات، فضلاً عن تدمير البنية التحتية في البلاد، لا سيما في الشرق والجنوب، وهو ما يعني ضياعاً اقتصادياً لعقود مقبلة.
بوتين والوقت
زيلينسكي في مأزق، وبوتين يراهن على الوقت والهدايا غير المتوقّعة، على غرار حرب غزة. لدى روسيا بنية صناعية كبرى قادرة على تأمين حاجات جيشها من السلاح. أمّا ندّه الأوكراني فيعتمد على الخارج لرفد جيشه بالعتاد والدبّابات، بينما داعمه الأول، الغرب، صار في وادٍ آخر. التعبئة العسكرية صعبة في روسيا، لكنّها أصعب بكثير في أوكرانيا على الرغم من أنّها تتعرّض لهجوم يهدّد وحدة أراضيها وسيادتها.
إقرأ أيضاً: عام نهاية القانون الدوليّ
الحظّ يلعب الآن لعبته لمصلحة بوتين على حساب غريمه “المنحوس”. لكنّ الحظّ ليس وحده العامل الحاسم في الصراع بين دولتين متجاورتين كبراهما تريد ابتلاع الصغرى أو جعلها تحت وصايتها. حظّ أوكرانيا العاثر هو في التاريخ والجغرافيا. وإذا كانت أوكرانيا مصابة بلعنة التاريخ حيث تعود علاقتها بروسيا لمئات السنين ويتداخل فيها الدين والثقافة واللغة والعرق إلى درجة يصعب فيها الفصل بين الشعبين، ولا سيما في مناطقها الشرقية، فإنّ لعنة الجغرافيا ليست أقلّ وطأة عليها، ذلك أنّ موقعها الفاصل بين العالمين الأوراسي والغربي جعلها دوماً رقعةً من الأرض ملتهبة ومطمعاً لكلّ الغزاة. وعندما تحضر اللعنتان معاً تصير لعنة السياسة ثالثتهما والمحصّلة الطبيعية للجمع بين الاثنين. وهكذا فإنّ روسيا لا تستطيع أن ترى جارتها الصغرى خارج نطاق أمنها القومي والسياسي أو ساحة يلعب فيها الآخرون ضدّها، والغرب يريدها رأس حربة أطلسية وسدّاً أمام موسكو لتطويعها ومنعها من استعادة دورها العالمي المفقود. وبين هذا وذاك تدفع أوكرانيا فواتير الصراع وتصير ضحيّة التاريخ والجغرافيا والسياسة معاً.