يروي فؤاد أفرام البستاني، المؤرّخ والرئيس الأوّل للجامعة اللبنانية، أنّ رجل دولة عثمانياً التقى البطريرك الماروني الياس الحويك عام 1919 في باريس، أثناء سعيه لدى السلطات الفرنسية لاسترجاع المناطق المسلوخة من لبنان، كما كان سائداً في الأوساط المسيحية في ذلك الزمان، من إجل إقامة لبنان الكبير. كان يقال عن تلك المناطق المسلمة بغالبيتها، إنها الحدود الطبيعية والتاريخية للبنان بالنظر إلى امتدادات الإمارتين المعنية والشهابية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر قبل تشكيل متصرفية لبنان عام 1861 بتدخل الدول الأوروبية. علماً أن الإمارتين كانتا خاضعتين للآستانة. الحويك هو الداعي الأكبر لتكوين لبنان المستقلّ عن سوريا، بحماية فرنسية. وفي هذا اللقاء، نصحه الرجل السياسي المخضرم بعدم تكبير لبنان، فيصبح المسلمون أكثرية، فيحوّلون لبنان إلى دولة إسلامية أوتوقراطية، ويستظلّون برعاية دولة إسلامية كبرى، وتنبّأ بأنّه سيندم قبل مرور 50 سنة. هذا السياسي العثماني، لم يكن سوى اللبناني المسيحي سليمان البستاني (توفي في 1925)، الأديب، والموسوعي (مترجم “الإلياذة” لهوميروس)، الرحّالة، الذي جال في الشرق والغرب، وعاش في العراق ومصر، ووصل إلى أن يكون عضواً في “مجلس المبعوثان العثماني” عام 1909، وأن يتولّى وزارة التجارة والزراعة في عهد السلطان محمد رشاد عام 1913 (لويس صليبا، “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”).
إقرأ أيضاً: إرباك المئة: عقبال المئتين؟!
ويلتقي رأي سليمان البستاني مع الدبلوماسي الفرنسي صاحب الأدوار الخطيرة في مصير المناطق الخاضعة لفرنسا بعد انحلال الدولة العثمانية، روبير دي كيه Robert de Caix (توفي في 1970)، والذي صار الأمين العام للمفوضية الفرنسية في لبنان. ومن أفكاره التي عمل على تحقيقها من قبل ومن بعد، تقسيم سوريا ولبنان إلى دويلات مذهبية، بهدف إضعاف الأكثرية السنية من جهة، ومنح الأقليات الدينية دولهم الخاصة من جهة أخرى كما يقول فواز طرابلسي في كتابه “تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف”. لهذا، كان حريصاً على عدم قيام لبنان الكبير، لأنه سيضمّ أكثرية مسلمة، فيفقد هذا اللبنان الغاية من تأسيسه، وهو أن يكون وطناً قومياً للمسيحيين. وظلّ حتى أيامه الأخيرة في لبنان، معارضاً لضمّ بيروت وطرابلس، المدينتين السنّيتين الأكبر، وبالأخص رفضه ضمّ طرابلس بوصفها مركز ثقل سني متطرّف (في تمسّكه بالوحدة مع سوريا) مقترحاً منح مسلميها حكماً ذاتياً والسيطرة على مينائها. وعلى الرغم من المنافع الاقتصادية التي تبرّر ضمّ بيروت، إلا أنه كان يعتقد أنّ بيروت ستكبر وتتجاوز بحجمها الديموغرافي جبل لبنان، فتتغيّر بنية هذا اللبنان، مقترحاً جعلها مدينة حرّة مستقلّة عنه. ولم يمانع بضمّ البقاع لأسباب استراتيجية فرنسية، ولا مانع من ضمّ عكار لوجود أغلبية مسيحية أرثوذكسية فيه، وسيكون على تماس مع دولة العلويين في سوريا فتحاصَر طرابلس السنية. وبالنسبة لسنجق صيدا في الجنوب، بغالبيته الشيعية، فقد اقترح جعله دولة شيعية، مع ضمانات للأقلية المسيحية فيه، لكن بسبب الأطماع الصهيونية فيه، مال إلى ضمّه للبنان. وفي المحصّلة، قامت رؤيته على إقامة فدرالية بين جبل لبنان وبيروت وسنجق صيدا في الجنوب (لويس صليبا، “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”). وهو الأمر الذي لم يتحقّق طبعاً، لكنه بقي يتردّد في أذهان المكوّنات اللبنانية طوال مئة عام ولم يمت!
الحويك هو الداعي الأكبر لتكوين لبنان المستقلّ عن سوريا، بحماية فرنسية
كان المسلمون عموماً، وأهل السنة خصوصاً، قبل إعلان لبنان الكبير وبعده، عقدة مستعصية في نشأة الكيان، الذي أراده بعض المسيحيين، وبعض الموارنة خاصة، أن تكون لهم اليد العليا فيه، على سائر المسلمين سواء أكانوا في حدود المتصرفية السابقة في جبل لبنان، أو في المناطق المضمومة إلى لبنان، وهي المدن الساحلية الأربع: طرابلس وبيروت وصيدا وصور، ذات الأغلبية السنية، فضلاً عن الأقضية الأربعة وهي حاصبيا وراشيا وبعلبك والبقاع (المعلّقة).
لم يكن المسيحيون كتلة واحدة، في هذا المضمار، بل كانت تتنازعهم نوازع شتى، بين الروم الأرثوذكس الرافضين للبنان وهم سكان المدن غالباً، والذين كانوا يميلون أكثر إلى القومية السورية باعتبار امتدادهم الديموغرافي (كمال الصليبي، “تاريخ لبنان الحديث”)، والموارنة المؤيدين له وهم سكان الجبل غالباً وبين من يريد الاكتفاء بلبنان الصغير حفاظاً على هويته المسيحية، أو المغامرة بتركيب لبنان الكبير، في موازنة دقيقة بين المنافع الاقتصادية المرتجاة من السهول والسواحل الملحقة بلبنان، وبين المخاطر الديموغرافية والسياسية حين تصبح أكثرية اللبنانيين من المسلمين. لكنّ الانتداب الفرنسي جاء أخيراً ليغلّب فريقاً مسيحياً على آخر، ليس فقط المؤيدين لفكرة لبنان عموماً على الرافضن لها، ولا معسكر المتمسّكين بلبنان الكبير على حساب لبنان الصغير، بل أيّد الفرنسيون المعسكر الموالي لهم بشدة. ذلك الذي كان يرغب بتأبيد الانتداب الفرنسي وعزل لبنان عن المحيط العربي، وليصنع دولة الغلبة المسيحية على المسلمين، المضمومين قسراً إلى الدولة الناشئة، إنفاذاً لمصالح وحسابات فرنسية خاصة، لا علاقة للبنانيين ولا للمسيحيين بها ولا بمصالحهم الحقيقية. والاستقلال الناجز عام 1943، الذي تحقق بالجلاء العسكري الفرنسي عام 1946، إنما انعقد بأمرين: الأول اقتراب المسلمين من فكرة لبنان من ضمن رؤيتهم العربية الوحدوية، أي تحقيق وحدة لبنان الكبير في مرحلة أولى، ورجحان كفة المسيحيين الراغبين بالاستقلال الكامل عن فرنسا بعد انحياز البطريرك الماروني أنطوان عريضة إليهم، وتشكيله غطاء متيناً لمعركة الاستقلال (البطريرك أنطوان عريضة “لبنان وفرنسا وثائق تاريخية أساسية تبرز دور بكركي في مواجهة الانتداب الفرنسي والاحتكارات الفرنسية“).
كان المسلمون عموماً، وأهل السنة خصوصاً، قبل إعلان لبنان الكبير وبعده، عقدة مستعصية في نشأة الكيان، الذي أراده بعض المسيحيين، وبعض الموارنة خاصة، أن تكون لهم اليد العليا فيه
كان أهل السنة نواة الموقف الرافض للبنان الكبير، بالقدر نفسه الذي كان فيه الموارنة الكتلة الرئيسية في بناء لبنان. ولا تعود أهمية الموقف السنّي آنذاك بسبب تعاظم ثقلهم الديموغرافي بضمّ الأقضية والمدن، بل لأن موقفهم كان الأكثر تماسكاً. فعندما جاءت لجنة كينغ كراين إلى لبنان وسوريا وفلسطين لاستطلاع آراء السكان عام 1919 بتكليف من الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، بشأن الاستقلال عن سوريا أو الانضمام إليها، أو الانتداب والدولة المرغوب فيها لتتولّى هي مهمّة الانتداب، ازدحمت العرائض بمطالب متناقضة إلى هذا القدر أو ذاك، بين الطوائف، إلا أنّ قلة قليلة سنية طالبت بلبنان (حكمت ألبير الحداد، “لبنان الكبير”).
أما رفض لبنان إسلامياً، فتفاوت بين المناطق والمدن. ففي جبل عامل، وفي البقاع كما في جبل لبنان، شنّ المقاومون حرب عصابات ضدّ القوات الفرنسية امتدّت بآثارها إلى بعض القرى المسيحية الموالية لفرنسا في الجنوب. وانعقد في وادي الحجير عام 1920 مؤتمر جمع وجهاء الشيعة وعلماءهم وثوّارهم، تأييداً للملك فيصل في دمشق (تمارا الشلبي، “شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية 1918-1943”). وفي طرابلس، تجلّى الرفض السنّي القاطع للبنان الكبير، في كلّ مراحله، واتخذ طابع الإضراب والعصيان المدني. وفي عام 1936، عندما انعقدت المعاهدة الفرنسية اللبنانية، زار رئيس الجمهورية إميل إده طرابلس، فووجه بالإضراب والتظاهر، وسقط أربعة قتلى برصاص حرّاسه (نزيه كبارة، “طرابلس في القرن العشرين”). أما بيروت، فكانت واجهة العمل السياسي المناهض للانتداب، باعتبار أنّها في آخر عهدها كانت ولاية عثمانية، وتصدّر أعيان السنّة من سياسيين وعلماء، مهمّة المقاومة السياسية للانتداب، والتي تدرّجت من رفض الضمّ إلى لبنان دون استفتاء رأي المسلمين، إلى المطالبة بالمساواة في المناصب السياسية والوظائف الإدارية مع المسيحيين، من عدد النواب حتى رئاسة الجمهورية. وكانت مؤتمرات أبناء الساحل ما بين عامي 1920 و1936، تتضمّن المواقف المفصلية في تلك المرحلة (حسان حلاق، “مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة 1936″).