لماذا هذه الشدّة في الحرب الإسرائيلية على غزة؟ ولماذا لا يدوم “وقف إطلاق النار” لفترة طويلة؟
الأكاديمي البريطاني بول روجرز، أستاذ دراسات السلام في جامعة برادفورد، أجاب بأنّ “إسرائيل تعتمد النهج المحدّد في الحرب المعروف باسم “عقيدة الضاحية”.
“عقيدة الضاحية”، the Dahiya doctrine، كما يعرّف عنها الباحث في قضايا الأمن الدولي في منصّة openDemocracy الإعلامية البريطانية، هي الاستراتيجية التي طبّقتها إسرائيل خلال حرب تموز عام 2006 في لبنان والتي كان هدفها أبعد من هزيمة الخصم، حيث ركّزت على تدمير البنية التحتية الرئيسية والاقتصاد، مع سقوط العديد من الضحايا المدنيين.
“لكنّ إسرائيل ستفشل في تحقيق هدفها”، يؤكّد الباحث البريطاني، “فحماس ستظهر إمّا في شكل مختلف أو قد تصبح أكثر قوّة، ما لم يتمّ العثور على طريقة ما للبدء بالمهمة الصعبة للغاية المتمثّلة في جمع الجهات المتنازعة بعضها مع بعض
في ذلك العام، يضيف الباحث في مقال نشرتها صحيفة “الغارديان” البريطانية، وفي مواجهة وابل من الصواريخ التي أطلقها الحزب من جنوب لبنان، شنّ جيش الدفاع الإسرائيلي حرباً جوّية وبرّية مكثّفة. ولم تنجح هذه الحرب، وتكبّدت القوات البرّية خسائر فادحة. لكنّ أهمية الحرب كانت تكمن في طبيعة الهجمات الجوّية التي استهدفت مراكز قوّة الحزب في منطقة ضاحية بيروت الجنوبية، والبنية التحتية الاقتصادية اللبنانية. وكان هذا بمنزلة تطبيق متعمّد لـ”القوّة غير المتناسبة”، مثل تدمير قرية بأكملها، إذا اعتُبرت مصدراً لإطلاق الصواريخ.
كانت النتيجة أنّ نحو ألف مدنيّ لبناني قتلوا، ثلثهم من الأطفال. وتحوّلت المدن والقرى إلى أنقاض. وأصيبت الجسور ومحطات معالجة مياه الصرف الصحّي ومرافق الموانئ ومحطّات الطاقة الكهربائية بالشلل أو الدمار.
معاقبة المدنيّين وإذلالهم
“عقيدة الضاحية”، كما يوضح الباحث، عرضها العقيد الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي غابي سيبوني في كتاب نشره “معهد دراسات الأمن القومي” في جامعة تل أبيب بعد عامين من حرب تموز بعنوان “القوّة غير المتناسبة: مفهوم الردّ الإسرائيلي في ضوء حرب لبنان الثانية”، باعتبارها كانت ردّاً على هجمات الحزب، وأشرف على تطبيقها قائد القوات العسكرية الإسرائيلية في لبنان أثناء الحرب الجنرال غادي آيزنكوت الذي تولّى منصب رئيس الأركان العامّة للجيش الإسرائيلي، وتقاعد في عام 2019، وهو حالياً وزير في حكومة الحرب الحالية نيابة عن حزب الوحدة الوطنية بزعامة بيني غانتس، ومستشار لحكومة نتانياهو الحربية منذ تشرين الأول الماضي كمراقب في مجلس الوزراء الرفيع المستوى الذي يقود عمليات الردّ في حملة غزة (قُتل نجله الرقيب احتياط، غال مئير آيزنكوت، يوم الخميس 7 كانون الأول الجاري بانفجار قنبلة في نفق بالقرب من مخيّم جباليا شمال قطاع غزة).
بعد حرب 2008- 2009 نشرت الأمم المتحدة تقريراً لتقصّي الحقائق خلص إلى أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية “مصمّمة لمعاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين”
تمّ استخدام هذا المبدأ في غزة خلال الحروب الأربع السابقة منذ عام 2008، وخاصة حرب 2014. وفي تلك الحروب الأربع، قتل جيش الدفاع الإسرائيلي حوالي 5,000 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، مقابل خسارة 350 من جنوده وحوالي 30 مدنياً. وأحدث أضراراً في محطّة الكهرباء الرئيسية، وتأثّر نصف السكّان، البالغ عددهم آنذاك 1.8 مليون نسمة، من نقص المياه، وافتقر مئات الآلاف إلى الكهرباء، وغمرت مياه الصرف الصحّي الشوارع.
بعد حرب 2008- 2009 نشرت الأمم المتحدة تقريراً لتقصّي الحقائق خلص إلى أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية “مصمّمة لمعاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين”.
هذا النهج يرى الباحث البريطاني أنّ إسرائيل تطبّقه في غزة، حيث إنّها منذ بداية الحرب تقصف بشدّة، وارتفع إجمالي عدد القتلى منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) إلى 15,899 شخصاً، وفقاً لوزارة الصحّة في غزة، بالإضافة إلى ما لا يقلّ عن 41,000 جريح. ومن بين القتلى 6,500 طفل، بينهم مئات الرضّع. وكان الدمار المادّي في غزة هائلاً: تضرّر 60% من إجمالي المساكن في القطاع (234 ألف منزل)، منها 46 ألفاً دمّرت بالكامل، وهناك نقص خطير في الغذاء والمياه النظيفة والإمدادات الطبّية.
يضيف الباحث أنّه على الرغم من الهجمات الإسرائيلية الواسعة النطاق، المدعومة بإمدادات غير محدودة تقريباً من القنابل والصواريخ والدعم الاستخباري من الولايات المتحدة، تواصل حماس إطلاق الصواريخ، ولا تزال تحتفظ بحجم كبير من القوات شبه العسكرية حيث إنّ 18 كتيبة من أصل 24 كتيبة شبه عسكرية نشطة ما زالت سليمة، بما في ذلك جميع الكتائب العشر في جنوب غزة، وأنّه على الرغم من تزايد الدعم الفلسطيني لحماس في الضفة الغربية، حيث قام المستوطنون المسلّحون وقوات الدفاع الإسرائيلية بقتل العشرات من الفلسطينيين منذ بدأت الحرب، فإنّ الحكومة الإسرائيلية عازمة بشكل مطلق على مواصلة الحرب وتسريعها، على الرغم من تحذير وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومطالبته إسرائيل بالحدّ من الخسائر البشرية وتأكيد نائبة الرئيس كامالا هاريس أنّ “الولايات المتحدة لن تسمح تحت أيّ ظرف من الظروف بالترحيل القسري للفلسطينيين من غزة، أو الضفة الغربية، أو حصار غزة، أو إعادة رسم حدود غزة”.
إقرأ أيضاً: أولمرت وكيرتزر وليفي: لتغيير قادة فلسطين وإسرائيل
يرى روجرز، الذي كان أيضاً رئيساً لـ”جمعية الدراسات الدولية البريطانية”، أنّ الوضع الآن، بعد شهرين من الحرب، أصبح أسوأ بكثير، وسيتفاقم مع استمرار الهجوم البرّي في جنوب غزة بفعل عشرات الآلاف من سكان غزة اليائسين الذين يحاولون العثور على أماكن آمنة. والهدف الإسرائيلي المباشر، الذي قد يستغرق تحقيقه شهوراً، هو القضاء على حماس مع محاصرة الفلسطينيين في منطقة صغيرة في جنوب غرب غزة حيث يمكن السيطرة عليهم بسهولة أكبر، وحيث الهدف على المدى الطويل هو توضيح أنّ إسرائيل لن تتساهل مع أيّ معارضة، وستحتفظ قواتها المسلّحة بالقوّة الكافية للسيطرة على أيّ تمرّد، ولن تسمح لأيّ دولة إقليمية بتشكيل تهديد، وذلك بدعم من قدراتها النووية القويّة.
“لكنّ إسرائيل ستفشل في تحقيق هدفها”، يؤكّد الباحث البريطاني، “فحماس ستظهر إمّا في شكل مختلف أو قد تصبح أكثر قوّة، ما لم يتمّ العثور على طريقة ما للبدء بالمهمة الصعبة للغاية المتمثّلة في جمع الجهات المتنازعة بعضها مع بعض. وفي الوقت نفسه، فإنّ الجهة الوحيدة التي يمكنها فرض وقف إطلاق النار هي الولايات المتحدة، لكن لا يوجد ما يشير الى ذلك، على الأقلّ حتى الآن”.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا