أسئلة اللامركزيّة القاتلة

مدة القراءة 5 د


في الطريق إلى اللامركزيّة في لبنان، ثمّة أسئلة كثيرة تُطرح وحدها، بلا جهد يُذكر وبلا منّةٍ من سائل أو باحثٍ أو ساعٍ. غالباً ما تصطدم التنظيرات بعقبات كبرى، قبل أن تصير واقعاً مرتجى، وهي عقبات في الكثير من الأحيان تغيّر الفكرة نفسها، لتصير نقيضها في عالم التحقّق.

شتّان بين معنيَيْن
مثال على ذلك اللامركزيّة. شتّان بين معنيَيْها، في ظلّ دولة قويّة ومتماسكة، القوانين فيها تحكُم ولا يُحكَمُ عليها، وفي ظلّ دولة مفكّكة ومقطّعة الأوصال. الصلات فيها تقوم على النفعيّة الضيّقة التي تسير في كلّ اتجاه. بينما تسهّل حياة المواطنين وترفع الظلم والتهميش اللاحقَين بالكثير منهم، وتقود البلاد إلى العدالة الاجتماعية المرتجاة، وتساهم في تكوين هويّة وطنية جامعة تسمو فوق الهويّات الإثنية والأقلّوية تحت ظلال دولة قويّة، تنتهي إلى التقسيم والتجزئة وتعزيز الهويّات الضيّقة والقضاء على آخر ملامح الدولة، وتسهم في تردّي أحوال اللبنانيين وتحيل الوطن إلى مجموعة من الهوامش أو الضواحي، في بلاد تكاد تنعدم فيها الثروات الطبيعية، في ظلّ دولة ضعيفة مبدَّدة السيادة، منزوعة الصلاحيّات، و”مهمّشة”.
في الحالة الثانية ننتقل إلى أوطان أو كانتونات لا مقوّمات اقتصاديّة لها، ولا أساسيات لقيام شبه دولة فيها وعليها.

اللامركزيّة في لبنان مصطلح غامض وفضفاض يتّسع لتأويلات وتفسيرات كثيرة. وشأنها شأن كلّ المصطلحات والأفكار والعناوين

أبعد من ذلك، تحتاج أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى تطهير عرقي أو ديني أو مذهبي، أو حتى ما دون ذلك. ثمّ قبل هذا وذاك كلّه، كيف سيتمّ تحديد نطاق كلّ “لامركزية”، في وطنٍ التقسيمات الإدارية فيه لم تذُق طعم الاستقرار منذ نيّف وقرن، هي عمر الدولة اللبنانية، بل منذ أكثر بكثير من ذلك، أي منذ عهد السناجق العثمانية التي لم تستقرّ على حدود أو حال، وفي الإيغال أبعد في التاريخ شواهد أكثر؟

العبرة في التطبيق؟
هل هي لامركزيّات على صعيد الأقضية، أو حتّى أضيق من ذلك؟ وإذا ما تمّ توسيع اللامركزيّات تلك لتشمل محافظة بقضّها وقضيضها، وهي مهما كبرت واتّسع أفقها تظلّ شحيحة الموارد اقتصادياً وتراوح بين ما يتّصف منها بكثافة سكّانية لا تسعها الجغرافيا، وما يندر فيه وجود تجمّع لندرة السكان، فمن يضمن ألّا نعود إلى الاقتتال بين مكوّنات اللامركزيّة الواحدة: في الجنوب مثلاً بين السُّنّة والشيعة وما بقي من مسيحيين، وفي الجبل بين الدروز والمسيحيين، وفي الشمال بين السُّنّة والمسيحيين، وفي البقاع بين المسيحيين والسُّنّة والشيعة والدروز؟ ما العمل حينها؟ أننقل صراعات الوطن الكبير – الصغير إلى شبه أوطان – كانتونات نطالب فيها بلامركزية ما مجدّداً، حتى نصل إلى درك يصبح فيه كلّ مواطن مع نفر من بنيه دولةً مستقلّةً قائمةً بذاتها على بضعة أمتار مربّعة؟
اللامركزيّة في لبنان مصطلح غامض وفضفاض يتّسع لتأويلات وتفسيرات كثيرة. وشأنها شأن كلّ المصطلحات والأفكار والعناوين، في بلادنا، تحتاج إلى شواهد وأمثلة تطبيقية، لتدنو من أذهان الأقلّيات الإثنيّة وولاءاتها وتوجّهاتها. مصطلح لا يمكن إيراده “حاف” هكذا، بلا نعت أو صفة أو كثير تخصيص.

قد تكون قراءة الرئيس سليم الحصّ الأدقّ والأصوب والأصدق في مسألة اللامركزيّة، إذ تضع الإصبع على الجرح الحقيقي الذي ينزف لامركزيّات وتفكّكاً وانقسامات

أيّة لامركزيّة؟
عن أيّة لامركزية يتحدّثون الآن: السياسية بمعنى الفدرالية، أم الإدارية بمعنى توسيع صلاحيات مجالس الحكم المحلّية (البلديات نموذجاً) أم “الموسّعة” التي تحتاج إلى طائف جديد؟
تدعو غالبية الأحزاب السياسية وأهل السياسة والمجتمع المدني إلى تطبيق اللامركزيّة الإدارية كجزء أو مدخل إلى إصلاح النظام اللبناني، سياسياً وإدارياً واقتصادياً، وحتى اجتماعياً، ويطالبون في سبيل ذلك بتوسيع صلاحيّات البلديّات وسلطاتها، وفي ذلك وجهة نظر قابلة للهضم.
ولكن هل عندنا بلديّات تقوم في أيامنا هذه بأقلّ ما يُمليه عليها الدّستور والقوانين وتتحمّل جزءاً ولو يسيراً من مسؤوليّاتها؟ وقبل ذلك، هل يغفل هؤلاء أنّ عدداً لا يستهان به من “بلديّاتنا” معطّلة منذ انتخابها، لأسباب سياسية حيناً وطائفية حيناً آخر وعائلية – عشائرية في أحايين كثيرة؟ أبعد من ذلك: هل ندفع نحن اللبنانيين ضرائب؟

تداول للتعمية
إنّ تداول مصطلح اللامركزيّة بكثرة هذه الأيام إنّما هو نوع من تضليل المواطنين والرأي العامّ عن الجرح الحقيقي. هو تداول أشبه بالتعمية وأقرب إلى غرز الإصبع في العين، لئلّا تنقشع فداحة ما آلت إليه أحوالنا، أو “اجتماعنا” في الـ30 سنةً الماضية. هو أقرب إلى ما اعتاد الحكّام العظام والدول الكبيرة فعله قبيل تمرير قرار أو مشروع من مشاريعهم العظيمة التي ما تزال راهنةً حتى أيامنا هذه. ولكن ما القرارات العظيمة التي يريد تمريرها من يرمون مصطلح اللامركزيّة أو فتنتها، على طاولة التداول؟ هل هم جادّون فعلاً في الإصلاح والمضيّ قدماً فيه؟

إقرأ أيضاً: الفدراليّة: هل وصلنا إلى “الطريق المسدود” فعلاً؟

قد تكون قراءة الرئيس سليم الحصّ الأدقّ والأصوب والأصدق في مسألة اللامركزيّة، إذ تضع الإصبع على الجرح الحقيقي الذي ينزف لامركزيّات وتفكّكاً وانقسامات. فبالنسبة له كلّ طرح اللامركزيّة، تحت ظلال دولة مهترئة لا تقوى على اتّخاذ قرار، لا يُعوّل عليه. فتطبيقها في ظلّ دولة كهذه محاولة للانتحار لا للإصلاح. شرط الإصلاحات الحقيقية دولة متماسكة وقويّة ذات سلطة في وطن ذي سيادة، وما خلا ذلك ذرّ للرماد في العيون، وخطوة على طريق الزوال.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…