يصعب تفسير الاشتباكات الدائرة في مخيّم عين الحلوة الفلسطيني القريب من صيدا في جنوب لبنان من دون أن نأخذ في الاعتبار الرغبة الواضحة لدى “جبهة الممانعة” التي تقودها إيران في التخلّص من هيمنة حركة “فتح” على المخيّم الفلسطيني الأكبر في لبنان.
ليست اشتباكات عين الحلوة، أكبر المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، سوى امتداد لِما يحدث في الضفّة الغربيّة ولرغبة إيران في وضع يدها على القضية الفلسطينيّة. تريد “الجمهوريّة الإسلاميّة” تأكيد ما كان يقوله الرئيس الراحل حافظ الأسد من أنّ “القرار الفلسطيني المستقلّ بدعة”، أي أن لا وجود لمثل هذا القرار المستقلّ. كان يقول ذلك نكاية بياسر عرفات. تعمل إيران منذ سنوات عدّة على تنفيذ ما عجز الأسد الأب عن تنفيذه.
إضافة إلى ذلك، ليست الاشتباكات الفلسطينيّة – الفلسطينيّة، التي يمكن أن تتطوّر مستقبلاً، سوى تعبير عن فوضى السلاح التي تستثمرها إيران في كلّ بقعة عربيّة تستطيع الوصول إليها، عبر ميليشيات تابعة لـ”الحرس الثوري”. تفعل ذلك في قطاع غزّة ولبنان وسوريا والعراق… وصولاً إلى اليمن. ليس السلاح الفلسطيني في مخيّم عين الحلوة وغيره من المخيّمات الفلسطينية في لبنان سوى تسخيف للقضيّة الفلسطينية التي هي قضيّة شعب يطالب بحقوقه المشروعة في الداخل الفلسطيني وليس في مخيّم لبناني أو أيّ مكان آخر.
يصعب تفسير الاشتباكات الدائرة في مخيّم عين الحلوة الفلسطيني القريب من صيدا في جنوب لبنان من دون أن نأخذ في الاعتبار الرغبة الواضحة لدى “جبهة الممانعة” التي تقودها إيران في التخلّص من هيمنة حركة “فتح” على المخيّم الفلسطيني الأكبر في لبنان
لا فائدة من “التوحيد”
تؤكّد اشتباكات عين الحلوة أن لا فائدة من أيّ اجتماعات تُعقد من أجل توحيد الفلسطينيين، كما حصل في مصر أخيراً. تستغلّ “جبهة الممانعة” مثل هذه الاجتماعات في سياق إعداد “حماس” نفسها لمرحلة ما بعد غياب محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وهي سلطة تعاني من الترهّل في الوقت الذي لم تعُد “فتح” قادرة على لعب دور قيادي على الصعيد الفلسطيني.
لا يمكن الفصل بين هجوم “عصبة الأنصار” وحلفائها الإسلاميين على “فتح” وبين المشروع الإيراني الكبير في المنطقة الذي تُعتبر “حماس” جزءاً لا يتجزّأ منه. ليس صدفة أن يكون إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” زار عين الحلوة غير مرّة في أقلّ من سنة. ليس سرّاً أيضاً أنّ عودة “حماس” إلى دمشق كانت بوساطة مباشرة من الحزب.
فوق ذلك كلّه، تشير التطوّرات البالغة الخطورة التي شهدها مخيّم عين الحلوة إلى أنّ المشروع التوسّعي الإيراني مستمرّ، وأنّ لبنان ضحيّة بين ضحاياه الكثيرة. أكثر من ذلك، ليس لبنان في سياق هذا المشروع الإيراني سوى ورقة من أوراق متنوّعة تصبّ في اتّجاه واحد. هذا الاتّجاه هو تكريس “الجمهوريّة الإسلاميّة” كقوّة مهيمنة في الخليج والشرق الأوسط، إضافة إلى أنّها المتحكّم بالقرار الفلسطيني عبر “حماس”. مستقبل فلسطين، من وجهة نظر “الجمهوريّة الإسلاميّة”، ومن يسير في ركابها مثل “حركة الجهاد الإسلامي”.
في النهاية، ما يحصل في مخيّم عين الحلوة ليس سوى حلقة جديدة في مسار الإمساك بالمخيّمات وضبطها تحت هيمنة الحزب. لنتذكّر أنّ السلاح الفلسطيني، بات، عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، السلاح البديل من سلاح الحزب في لعبة المناكفات مع إسرائيل، كما سبق أن حصل في أكثر من تجربة صاروخية مشبوهة مثل الصواريخ التي أُطلقت من البرج الشمالي باتّجاه إسرائيل، إبّان إحدى جولات العنف الأخيرة في غزّة.
تتدرّج نظرية “وحدة الساحات” الإيرانية من ساحات الإقليم إلى ساحات لبنان الكثيرة وعلى رأسها المخيّمات
“وحدة الساحات”… والمخيّمات
تتدرّج نظرية “وحدة الساحات” الإيرانية من ساحات الإقليم إلى ساحات لبنان الكثيرة وعلى رأسها المخيّمات. لم تكن زيارات إسماعيل هنيّة لمخيّمات لبنان ومشاهد السلاح الذي استُعرض بشكل مستفزّ لكلّ اللبنانيين سوى تمهيد فجّ لانفجار مخيّم عين الحلوة، وربّما انفجارات أخرى تلوح في الأفق.
الحدّ الأدنى من النزاهة يستوجب الاعتراف بأنّ السلاح هو المشكلة الأساس التي أنتجت الجحيم اللبناني الراهن، أكان سلاح الحزب أم السلاح الذي يديره الحزب ويحميه، على حساب كلّ لبناني، بحجّة المقاومة وبانتحال صفات الحرص على القدس وفلسطين.
هذا السلاح يريد أن يُبقي لبنان أسير اتفاق القاهرة المشؤوم الموقّع في عام 1969، أي الاتّفاق الذي أعلن بداية نهاية لبنان كمنارة ثقافية وحداثيّة في الشرق الأوسط. يبدو أنّ ظروف استعادة لبنان لعافيته تزداد استحالةً اليوم. ليس أدلّ على ذلك من الخطاب الأخير للأمين العام للحزب، في ذكرى حرب صيف عام 2006. قال نصرالله في ذلك الخطاب إنّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنّ السلاح ليس في أولويّات اللبنانيين، بل إنّ أولويّاتهم تتركّز على الأمن المعيشي والأمن الغذائي والأمن الاجتماعي، وكأنّه يقول إنّه كلّما زاد الانهيار أعرض اللبنانيون عن النقاش الحقيقي والوحيد الواجب فتحه في لبنان، وهو وضع السبل للخلاص من هذا السلاح.
إقرأ أيضاً: فلسطينيو لبنان: لماذا “يفترسون” بعضهم بعضاً؟
لا يمكن للمعادلة التي وضعتنا أمامها الأحداث الأخيرة في مخيّم عين الحلوة أن تكون أكثر وضوحاً. فهي تقول ببساطة إنّ السلاح يؤدّي إلى انهيار، والانهيار يؤدّي إلى مزيد من البؤس وضعف المناعة الوطنية عند اللبنانيين. يبرّد ذلك حماستهم للتكتّل الوطني والشعبي والسياسي حول جوهر الأزمة… ويدفعهم إلى التلهّي بدل ذلك بالبحث عن حلول ومخارج شخصية أو الانجراف وراء سجالات رئاسة الجمهورية في حين أنّ الجمهورية نفسها في خبر كان.