2.3 مليار $ بيع عقارات في 3 أشهر: السعر أعلى بالشيك وأقلّ بـ”فريش ماني”

مدة القراءة 6 د


2.3 مليار دولار هي القيمة الإجمالية للتداولات العقارية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2020، مقابل 1.6 مليار دولار خلال الفترة المماثلة من العام 2019، أي بارتفاع نسبته 43%. هذا ما خلصت إليه آخر الإحصاءات التي صدرت عن “المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة”.

في الواقع، تظهر الأرقام الكثير من التفاصيل الأخرى المثيرة للاهتمام. فالارتفاع في الحجم الإجمالي لعمليات الشراء العقاري ترافق مع ارتفاع في متوسّط حجم العمليّة الواحدة بنسبة 23%، ليبلغ حوالي الـ166 ألف دولار للعمليّة، بينما ارتفع عدد العمليات بنسبة 17% ليبلغ 14 ألف عمليّة. بمعنى آخر، كان الارتفاع في قيمة التداولات العقاريّة الإجماليّة نتيجة للعاملين معاً: الارتفاع في عدد عمليّات الشراء، والارتفاع في متوسّط قيمة كلّ عمليّة.

لا يمكن الفصل بين هذه التطوّرات وبين الأزمة التي يشهدها القطاع المصرفي اليوم. فالضوابط التي فرضتها المصارف على ودائع عملائها، من ناحية القيود على عمليّات السحب النقدي والتحويل إلى الخارج، دفعت العملاء طوال الفترة الماضية إلى البحث عن طرق للتخلّص من سيولتهم العالقة في المصارف واستثمارها في موجودات أخرى.

إقرأ أيضاً: رهانات هشّة: الدولة تتحدّى علم الاقتصاد في معالجة سعر الصرف

ومن ناحية أخرى، كان عدد كبير من المطوّرين العقاريين وتجّار العقارات على استعداد لبيع العقارات مقابل شيكات مصرفيّة، نظراً إلى تراكم الديون المستحقّة عليهم للمصارف، وإمكانيّة استعمالهم السيولة العالقة في المصارف، عبر الشيكات، لسداد هذه الديون. وعمليّاً، كانت هذه المستجدّات فرصة لهؤلاء كي يخرجوا من أزمة عانوا منها طوال السنوات الماضية، عنوانها الرئيسي ركود الأسواق وتراكم موجوداتهم العقاريّة غير المباعة، بالإضافة إلى تعّثّر الكثير منهم في سداد الالتزامات للمصارف واضطرارهم إلى إعادة جدولة ديونهم المصرفيّة بشكل متكرّر.

هكذا، وبالإضافة إلى تجّار البناء والعقارات، بادر الكثير من التجار الآخرين الذين واجهوا بعض الصعوبات الماليّة إلى البحث عن مشترين لعقاراتهم من المودعين، ولو بشيكات مصرفيّة، لسداد تسهيلاتهم المستحقّة في المصارف، ذات الفوائد المرتفعة، وهو ما ساهم كذلك في تنشيط السوق العقاري وزيادة حجم وعدد عمليّات الشراء فيه.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الأرقام التي عرضتها “المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة” لا تعكس سوى جزء من الحجم الإجمالي لهذه العمليّات. فالغالبيّة الساحقة من عمليّات الشراء العقاري تتمّ عادةً وفق عقود رسميّة لا تلحظ سوى نسبة معيّنة من قيمة الشراء الفعليّة، بدافع التهرّب من الرسم الضريبي الفعلي. كما أن الأرقام “الرسمية” لا تعكس سوى زيادة التداولات العقاريّة لغاية نهاية شهر آذار، وهو ما يستثني الزيادة التي شهدها شهرا نيسان وأيّار. مع العلم أنّ مصرف لبنان قدّر السيولة التي خرجت من الودائع المصرفيّة لسداد القروض بحدود الـ7 مليارات دولار.

باختصار، كانت الأزمة المصرفيّة مصدر انفراج لكثيرين في القطاع العقاري، وينطبق ذلك على شركة “سوليدير” مثلاً، أكبر اللاعبين في هذا القطاع. فالشركة تتوقّع أن تكون قد لامست مبيعاتها لغاية نهاية شهر أيار الماضي حدود 500 مليون دولار، وهو ما يعني تمكّنها من سداد ديونها واحتفاظها بـ500 مليون دولار في رصيدها. مع العلم أنّ الشركة عانت طوال السنوات الماضية من ركود سيطر على القطاع العقاري، وانعكس على ميزانيّاتها السنويّة بشكل واضح. وبعد أن تدنّى سعر سهم الشركة إلى حدود 4.75 في بداية شهر تشرين الأوّل 2019، بات سهم الشركة يُتداول اليوم عند مستويات تتجاوز مستوى الـ10.3 دولار بفضل هذه التطوّرات.

في ظلّ هذه الظروف، بات السؤال الملحّ والمتكرّر على لسان المودعين المتردّدين بشراء العقارات يتعلّق تحديداً بمستقبل أسعار العقارات، خصوصاً أنّ اللجوء إلى العقار كطريقة للتخلّص من السيولة العالقة في المصرف قد لا يفيد في شيء إذا أقبل القطاع العقاري لاحقاً على انهيار في الأسعار.

مع شحّ السيولة وتراجع الطلب بالدولار النقدي، ومع ارتفاع سعر الصرف وما يعنيه ذلك من ارتفاع كلفة الحصول على الدولار، تتراجع اليوم تدريجيّاً أسعار العقارات عند تسعيرها بالدولار النقدي

في الواقع، وبحسب متابعين لحركة السوق العقاري، يشهد القطاع اليوم ارتفاعاً مستمراً في أسعار العقارات عند تسعيرها بالسيولة المصرفيّة، أي عند قبول الثمن بموجب شيكات مصرفيّة. ويعود هذا التطوّر من ناحية الطلب إلى تزايد المودعين الراغبين في تحويل سيولتهم في المصارف إلى موجودات عقاريّة، خصوصاً بعدما أظهرت كلّ التطوّرات أن أزمة القطاع المصرفي لن تشهد أي انفراج في القريب العاجل. ومن ناحية العرض، من الطبيعي أن تتناقص تتدريجيّاً في المرحلة المقبلة قيمة العقارات المعروضة للبيع مقابل شيكات مصرفيّة، مع سداد المطوّرين العقاريين لالتزاماتهم في المصارف، وعدم وجود مصلحة لديهم في قبول شيكات ستتحوّل إلى ودائع مقيّدة في النظام المصرفي. وبذلك، من المتوقّع أن تستمر الأسعار في منحاها التصاعدي عندما يتعلّق الأمر بتسعيرها بالدولار العالق في النظام المصرفي.

لكن في المقابل، وفي عمليّات بيع العقارات بالدولار النقدي، يحدث عمليّاً العكس بالضبط. فمع شحّ السيولة وتراجع الطلب بالدولار النقدي، ومع ارتفاع سعر الصرف وما يعنيه ذلك من ارتفاع كلفة الحصول على الدولار، تتراجع اليوم تدريجيّاً أسعار العقارات عند تسعيرها بالدولار النقدي. وبذلك، تشهد أسعار العقارات اليوم اتجاهين متعاكسين: ارتفاع في الأسعار بالسيولة المصرفية، وانخفاض في الأسعار بالسيولة الفعليّة. وعمليّاً، يعزّز وجود الاتجاهين بهذا الشكل تزايد الفارق إلى حدٍّ كبير بين قيمة الدولار الفعلي وقيمة الدولارات المصرفيّة عند التسعير في أيّ عمليّة تجاريّة في الأسواق.

بمعزل عن كلّ هذه التحوّلات في أسعار السوق، يبقى من الأكيد أنّ أسعار العقارات، سواء عند تسعيرها بالدولار الفعلي أو بالدولار المصرفي، ما زالت بعيدة كلّ البعد عن إمكانيّات الشباب اللبناني، وخصوصاً بعد توقّف قروض المؤسسة العامّة للإسكان والقروض السكنيّة الأخرى، وتراجع القيمة الشرائيّة للمداخيل مع تراجع سعر الصرف. وبذلك، ستكمن هنا المشكلة الفعليّة لاحقاً في سوق العقارات، وخصوصاً مع غياب أيّ سياسة إسكانيّة لدى الدولة اليوم.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…