حكاية الأيام الأخيرة قبل سقوط كابول

مدة القراءة 7 د

دول ورؤساء في مأزق كبير بسبب النصر الصاعق لحركة طالبان. تحوّلت مغامرة دونالد ترامب في شباط العام الماضي إلى كارثة قومية أميركية. وكرة النار يتقاذفها الديموقراطيون والجمهوريون. بايدن يلوم سلفه ترامب، وترامب يعتبرها أكبر هزيمة للولايات المتحدة في التاريخ، ويطالب باستقالة بايدن. والخبراء الاستراتيجيون حائرون وعلى لسانهم سؤال واحد: كيف انتصرت طالبان بهذه السرعة؟ ويتشعب منه أسئلة لا تنتهي: أين الجيش والقوات الخاصة؟ أين أمراء الحرب المعارضون لطالبان؟ أين ميليشيات إيران؟ بل أين الرئيس أشرف غني الذي بدأ أولاً بتحدّي طالبان، ثم فرّ إلى عُمان تاركاً وراءه كلّ شيء في كابول؟ يبدو في خلاصة المشهد أنّ ثمة تواطؤاً إقليمياً ودولياً على إنتاج نسخة أخرى من فيتنام للولايات المتحدة. فالمشهد المسرحي السوريالي، تكرر في مطار كابول، بعد 46 سنة من عملية إخلاء الدبلوماسيين الاميركيين وآلاف من الفيتناميين الجنوبيين المتعاونين معهم قبل أيام قليلة من سقوط سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية على يد قوات الشعب الفيتنامي الشيوعية عام 1975. قيل آنذاك إنها كانت أكبر عملية إخلاء بالطوافات في التاريخ، وترافقت مع مشاهد مأساوية من التوسل والصراخ والازدحام على البوابات، وجنود المارينز يدفعونهم إلى الوراء، وتُرك آلاف مؤلفة ممن لم تستوعبهم الطائرات، فلقوا مصيرهم المحتوم في النظام الشيوعي الجديد. لكن ما حدث في مطار كابول أخيراً في 15 آب، أشد فظاعة، فقد سجّلت كاميرات الهواتف تسلق أفغان متعاونين أو خائفين من طالبان على عجلات الطائرات الأميركية العسكرية المغادِرة، ثم تساقطوا تباعاً من ارتفاعات شاهقة!

ذهب وفد أفغاني يمثّل الأقليات إلى إسلام آباد، قبيل دخول طالبان إلى كابول. وكان الهدف تشكيل حكومة انتقالية في العاصمة، تمهيداً لسلطة تشاركية بين طالبان والمكوّنات الأخرى

عام 1979، أي بعد أربع سنوات من سقوط سايغون، استغلت الولايات المتحدة تدخل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، الذي كان يهدف إلى دعم الحكم الشيوعي المتداعي في كابول إثر تمرد الحركة الإسلامية بدعم من باكستان المجاورة، فرسمت خطة متكاملة لاستنزاف موسكو باستعمال ورقة الإسلام، المنتشر بقوة في النطاق الخارجي للاتحاد السوفياتي، أي آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان. فكان الدعم الاستخباري الأميركي بالمال والتدريب والمعلومات والسلاح النوعي لفصائل المجاهدين حتى قرار انسحاب الجيش السوفياتي عام 1989، بعد استنزافه اقتصادياً وعسكرياً. لكن لم تنجح واشنطن في صنع مشهدية الهزيمة المذلة، كما حدث في فيتنام، وبشكل معاكس. بل إن محمد نجيب الله الموالي لموسكو صمد في كابول وفي المدن الرئيسية ثلاث سنوات حتى عام 1992، باستعمال استراتيجية عسكرية ناجعة طبّقها لاحقاً النظام السوري في بدايات الثورة، أي التخلي عن الأرياف والتخندق في المدن. ولم يسقط نجيب الله إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991، وتوقف المدد من موسكو.

فأين تبخّر الجيش الأفغاني الذي أنفقت الولايات المتحدة عليه 83 مليار دولار، فيما أنفق الناتو عليه 70 مليار دولار؟ وأين ذهبت أموال المكلفين الأميركيين التي صُرفت على مدى 20 عاماً على بناء الدولة الأفغانية ومؤسساتها المختلفة، والتي تتجاوز تريليون دولار؟ تقول واشنطن بوست” في تقرير لها أمس الاثنين إن حركة طالبان دأبت منذ العام الماضي على رشوة الجنود والضباط ذوي المراتب الدنيا لتسليم مواقعهم والسلاح في مواقعهم النائية. وتطوّر الأمر صعوداً، فبلغت الوحدات الإدارية والولايات. لم تقع معارك، بل تسلّم وتسليم غالباً. فيما يؤكد خبراء لمجلة فورين بوليسي” في تقرير لها أن المشكلة ليست في عدم كفاية القوات الأمنية والعسكرية، ولا سيما القوات الخاصة، بل في فساد حكومة أشرف غني، وضعف القيادة، وفي الأنانية. يكفي القول إن الجنود لم يقبضوا رواتبهم منذ أشهر، وإن الإمدادات انقطعت عن الوحدات العسكرية، فراحت كل وحدة منها تعقد الصفقة مع طالبان من أجل النجاة. ويتهم مسؤولون أفغان سابقون الرئيس غني بإعاقة الجيش عن اتخاذ أي تدبير دفاعي حقيقي لوقف زحف طالبان.

ويبدو أن الاتفاق بين حركة طالبان وحكومة الولايات المتحدة في شباط 2020 كان له وقع سيّء جداً على معنويات النظام من أعلاه إلى أسفله. فحركة طالبان باتفاقها مع واشنطن، ارتقت دفعة واحدة من منظمة إرهابية إلى طرف سياسي معترف به لدى الولايات المتحدة. لذا افتقر رجال النظام إلى أي حافز للاستمرار في القتال. حتى الرئيس أشرف غني تصرّف بطريقة أثارت الشبهات لدى أقرب المقربين، فضلاً عن مساعديه وحلفائه وشركائه في الحكم. لذلك هم يحمّلونه المسؤولية الكبرى عن سقوط النظام، ويتحدثون عن الخداع الذي مارسه للإيقاع بهم. كما يرى سياسيون ممثّلون للأقليات العرقية والمذهبية المعارضة تاريخياً لحركة طالبان البشتونية أن باكستان الراعية التقليدية للحركة قامت بدور أساسي في إدارة الحملة المظفرة لطالبان التي انتهت بسقوط كابول، من خلال غرفة للسيطرة والتحكم، وأن إسلام آباد خدعتهم أيضاً، إما بالتنسيق مع أشرف غني، أو من دونه. فالهجوم الطالباني، الذي انطلق عقب بدء الانسحاب الأميركي في 1 أيار، كان منسقاً ومدهشاً بنظر العسكريين، إذ انطلقت الحركة في كل أرياف أفغانستان دفعة واحدة، فطوّقت مراكز الولايات، ثم أطبقت على الولايات الشمالية والغربية التي تضمّ الأقليات الطاجيكية والأوزبكية، فكان السقوط المدوي لمزار شريف في الشمال من دون قتال. وبعد ذلك، استعادت معاقلها التقليدية في الجنوب، ولا سيما قندهار. وأخيراً سيطرت على الولايات الشرقية المحاذية لباكستان والقريبة من كابول. لقد اعتمدت استراتجية أميركية معروفة هي: “الصدمة والرعب”.

أين تبخّر الجيش الأفغاني الذي أنفقت الولايات المتحدة عليه 83 مليار دولار، فيما أنفق الناتو عليه 70 مليار دولار؟ وأين ذهبت أموال المكلفين الأميركيين التي صُرفت على مدى 20 عاماً على بناء الدولة الأفغانية ومؤسساتها المختلفة، والتي تتجاوز تريليون دولار؟

بالمقابل، ذهب وفد أفغاني يمثّل الأقليات إلى إسلام آباد، قبيل دخول طالبان إلى كابول. وكان الهدف تشكيل حكومة انتقالية في العاصمة، تمهيداً لسلطة تشاركية بين طالبان والمكوّنات الأخرى. لكن فوجئ الوفد، وفيه كريم خليلي زعيم حزب الوحدة الإسلامية، الممثّل للهزارة الشيعة، إضافة إلى الشقيق الأصغر لأحمد شاه مسعود، أن باكستان تطلب منهم الاعتراف بنظام طالبان بدل العمل على الحكومة الانتقالية. وكان للتعهدات التي قطعتها طالبان لإيران بعدم التعرض لشيعة أفغانستان، ولا لطقوس عاشوراء، دور مهم في تسهيل سيطرة الحركة حتى على باميان الولاية الوسطى، التي يقطنها الهزارة الشيعة، من دون أي قتال.

هل خدع الرئيس الباكستاني عمران خان نظيره الأميركي ترامب العام الماضي عندما شجعه على التفاوض مع طالبان؟ وهل من الممكن أن تصنع باكستان نموذجاً إسلامياً أصولياً من المحتمل أن يطيح بالنظام الباكستاني نفسه تحت عنوان تطبيق الشريعة ولو بعد حين؟

الأرجح أن باكستان كانت تريد تشكيل حكومة مختلطة بين طالبان والأحزاب الأخرى، كي تستقر أفغانستان فلا تنزلق إلى حرب أهلية أخرى، وكي لا ينشأ نظام إسلامي صافٍ بما يشكّل خطراً وجودياً على باكستان نفسها، وكي يحظى النظام الجديد باعتراف دولي يسمح لأفغانستان بالنهوض مجدداً، فتستفيد باكستان استراتيجياً واقتصادياً. فما الذي حدث إذاً، وأفشل خطة باكستان في التسلّم والتسليم في كابول؟

تتجه كلّ الأنظار إلى الرئيس السابق أشرف غني، الذي بدلاً من البقاء في كابول، وإدارة عملية الانتقال إلى شخصية محايدة، كما كانت تقضي الخطة الأميركية الأصلية، بموافقة مبدئية من باكستان، ورعاية من قطر، فرّ فجأة من كابول، تاركاً سكان العاصمة، من دون حماية، إذ هرب رجال الجيش والشرطة، وقبلهم المسؤولون الرسميون والأمنيون والعسكريون. فلم يكن بدّ من دخول الحركة إلى العاصمة دونما اتفاق.

إقرأ أيضاً: أفغانستان وسط “البوزكاشي” الإقليميّ

ماذا يعني هذا سياسياً؟ يعني الدخول في الخيار غير المرغوب فيه من الأطراف الإقليمية والدولية، وهو إعلان إمارة أفغانستان الإسلامية، فتنشأ عوائق أمامها في الداخل وهي كثيرة، وفي الخارج وهي قوية. وإذّاك، تنطلق دورة أخرى من الصراع الداخلي والحصار الخارجي، بهدف تطويق أو إجهاض ظاهرة طالبان، الحركة الطلابية التي أدهشت العالم، وروّعته في الوقت نفسه.  

مواضيع ذات صلة

وقف حرب لبنان: ركيزة الحاضنة العربيّة؟

لماذا يعطي بنيامين نتنياهو هدية لإدارة راحلة في وقت يسعى بما أوتي من تأثير إلى أن يخسر الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية الثلاثاء المقبل؟ بعد الخيبة من…

… وتعود الكرة إلى ملعب “أبو مازن”

هذا ما سيحدث عاجلاً أم آجلاً: قد تتبلور حلول لجبهة الردّ والردّ على الردّ، وإن لم تكن نهائية وحاسمة، لكنّها وفق كلّ المؤشّرات ستظلّ محصورةً…

هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟

الضربة الجوّية الإسرائيلية على إيران لم تكن “مزلزلة” كما توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم تكن فتّاكة ومميتة كما هدّد وزير حربه يوآف غالانت….

هل تدركون ماذا يعني 1 تشرين الثاني الآن؟

 إنّه واحد تشرين الثاني 2024. اليوم الأوّل، من السنة الثالثة من الفراغ الرئاسي الرابع في ما بقي من دولة لبنان. وللمصادفة، هو عيد جميع القدّيسين،…