قضى الرئيس ميشال عون أربعاً من السنوات الثلاثين الماضية في قصربعبدا، إحداها في العام 1990، وثلاث منها في عهده الراهن. لكنّه حين يذكر السنوات الثلاثين الماضية لا يحتسبها. لعلّه لا يرى في زمن رفيق الحريري مبتدأ التاريخ ومنتهاه.
في السردية الثلاثينيّة الشائعة، يبدو رفيق الحريري صاحب قرارٍ لا يُنازَع في السياستين المالية والاقتصادية. يبدأ التاريخ المالي الحديث للجمهورية مع قدومه إلى الحكم في العام 1992، ولا ينقطع بخروجه إلى المعارضة في العام 1998، ولا حتّى باغتياله في 2005.
تستند تلك السردية إلى مقولة “التركة الثقيلة” التي ارتكز إليها رئيس مجلس الوزراء الأسبق سليم الحص في العام 1998، قبل أن يعود رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بعد اثنين وعشرين عاما ليصوغها على نحو أكثر درامية، يقول إنّ تياره أتى إلى الحكم “بعد أن اصطدمت التيتانيك بجبل الجليد”. هكذا تصبح تلك المقولة صالحة لإلقاء كلّ فشلٍ خارج الحريرية على الحريرية نفسها، ويصبح كل نجاح للحريرية وهماً أو أزمةً مؤجلة أو فخاً لمن يحمل “تركتها الثقيلة”.
قضى رفيق الحريري في الحكم عشر سنوات، كانت الست الأولى منها هي الفسحة التي أتاحها له التاريخ. بدأت بعد ذلك حرب الإلغاء عليه في مستهل عهد الرئيس الأسبق إميل لحود في العام 1998، ولم تتوقف حين عاد إلى الحكم على صهوة الانتصار الانتخابي في العام 2000، إلى أن انتهت باغتياله في 14 شباط 2005.
مع ذلك، تُختصر السنوات الثلاثون بالحريرية. لا تُرى منها إلاّ تلك العشرية المتقطعة الصاخبة.
الأحداث الأخرى كلها عابرة. لا أثر في السردية المالية – الاقتصادية لعشريةٍ من الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والبقاع الغربي حتى التحرير في العام 2000، ولا لاعتداء عناقيد الغضب في 1996 وحرب تموز 2006. لا ذكر لتسع سنوات هي عهد لحود الذي لم تكن له وظيفة أوضح من إلغاء رفيق الحريري، ولا لسنوات ميشال عون الأربع في قصر بعبدا، ولا لأحداث 7 أيار 2008 واتفاق الدوحة، وما تلاهما من سطوة السلاح على مسار الحكم والحكومات. تكاد السرديةٌ الثلاثينية لا تذكر أنّ رفيق الحريري قُتل قبل خمسة عشر عاماً. تتعامل مع الاغتيال كما لو أنّه حدث عابر في مسار السياسات المالية.
والسرديّة الثلاثينية تُصفِّر التاريخ قبلها. لم يكن وسط المدينة مدمّراً، ولم تكن المدينة الرياضية أنقاضا. لم تكن الطريق البحرية الضيقة من طرابلس إلى صيدا تحتاج إلى تحديث. لم تكن ثمّة حاجة إلى مطار ومدارس ومستشفيات وحرم جامعي. ابتدعت الحريرية الحاجة إلى كل ذلك، لا لشيء، إلا لتحقق حلم شمعون بيريز بـ “الشرق الأوسط الكبير”، أو لتبرر نزعة مازوشية إلى الاستدانة.
لا يمكن إذ ذاك تحميل مشاريع إعادة الإعمار وزر تراكم الدين العام. بل إن تلك المشاريع كان لها أثر إيجابي على نسبة الدين نسبة إلى حجم الاقتصاد
لم تكن ثمّة أرقام للناتج المحلي الإجمالي ومعدل دخل الفرد ومعدلات الفائدة على سندات الخزينة وعجز الميزانية وميزان المدفوعات واحتياطيات مصرف لبنان ونسبة الدين إلى الناتج المحلي. كلّ ذلك تمحوه السردية ولا يبقى إلاّ شبه رقم يذكره الذاكرون، هو حجم الدين العام قبل مجيء رفيق الحريري إلى الحكم. تحفظه الذاكرة قريبا من الصفر، وهو ليس كذلك.
السرد البديل
هل من فرصة لسرد بديل؟
كان الدين العام أواخر العام 1992 يفوق قليلاً أربعة مليارات ليرة، يضاف إليها دين بالعملات الأجنبية بقيمة 327 مليون دولار. غير أنّ حجم الاقتصاد حينها لم يكن يتجاوز كثيراً ستة مليارات دولار. الحلقة المفقودة من القصة أنّ الفائدة على سندات الخزينة كانت تبلغ 34 في المئة، وكان عجز الميزانية يقارب خمسين في المئة من الإنفاق، حتى قبل أن يبدأ الانفاق على إعادة بناء البنى التحتية والتوظيف في المؤسسات العسكرية والأمنية والوزارات.
ماذا لو لم يظهر رفيق الحريري في مسرح الحكم؟ لا يحتمل الأمر اجتهاداً. كان معدل الفائدة المرتفع، معطوفاً على عجز الميزانية والعجز في تدفقات العملة الأجنبية كفيلاً بمضاعفة الدين العام كل سنتين، حتى من دون بناء حجر على حجر.
يقود ذلك إلى الجانب الأهم من القصة، وهو تراكم الدين العام. السردية الشائعة تجعل من تكلفة الإعمار الجذر الرئيسي لذلك الدين الذي تضاعف ليصل إلى 90 مليار دولار اليوم.
تلك فرضية لا تسندها الأرقام. في دراسة نشرتها جريدة الأخبار في العام 2011 لعبد الحليم فضل الله، الذي ربما يصح وصفه بالمنظّر الاقتصادي لـ “حزب الله”، يرد رقم لافت. بين العامين 1992 و2010 لم تتجاوز حصة الإنفاق الاستثماري من الموازنات 8 في المئة، أي أقل من عشرة مليارات دولار من أصل 122 مليار دولار أنفقتها الدولة خلال تلك الفترة. يشمل هذا الإنفاق الاستثماري على كل طريق وكل جسر وكل مدرسة وكل حائط دعم وكل حبة زفت.
في المقابل، بلغت حصة المصروفات الإدارية والاستهلاكية العمومية، وهي باب الهدر الأكبر، 10.63 في المئة، أي ما يزيد على 12 مليار دولار. فيما وصلت حصة الرواتب والأجور إلى 29.7 في المئة، أي ما يزيد على 36 مليار دولار. بذلك يكون مجموع هذين البندين أكثر من 38 مليار دولار حتى 2010، حين كان الدين العام يقف عند حدود الخمسين مليار دولار.
ولندع جانباً التقديرات لتكلفة عجز قطاع الكهرباء على مدى السنوات الثلاثين الماضية، والتي لا تقل بحال من الأحوال عن أربعين مليار دولار متضمنة الفوائد. (تقدر دراسة نشرها رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة تكلفة قطاع الكهرباء بين العامين 1992 و2011 بنحو 18 مليار دولار).
لا يمكن إذ ذاك تحميل مشاريع إعادة الإعمار وزر تراكم الدين العام. بل إن تلك المشاريع كان لها أثر إيجابي على نسبة الدين نسبة إلى حجم الاقتصاد. فالإنفاق الاستثماري يحقّق مضاعفاً في الناتج المحلي بمعدل ثلاثة إلى واحد. أي أنّ كل دولار ينفق يضيف إلى الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة دولارات.
كانت نظرية الحريري تقوم على معادلة بسيطة: تكلفة الإعمار أقل من تكلفة الانتظار. كان الرجل يراهن على أن تحديث البنية التحتية وإعادة بناء وسط العاصمة سيُحدث نمواً كفيلاً بتعويض تكاليفه، ويجتذب من الاستثمارات ما يكفي من العملة الصعبة لدعم الاستقرار النقدي وبناء طبقة وسطى تستفيد من ثبات سعر الصرف. ويمكن القول إنّ السنوات الأولى أثبتت نجاعة النظرية، سواء من خلال تدفق الاستثمارات الأجنبية والإيرادات السياحية، أو من خلال النمو الاقتصادي، الذي تراوح بين7 و11 في المئة بين العامين 1993 و1996.
في الصورة الأوسع، يمكن السؤال عن ماهية السياسات المالية، بما هي حاصل الإنفاق العام الذي تمليه موازين القوى السياسية. بهذا المعنى، لا شيء اسمه “سياسة استدانة”، بل هناك عجز لا بدّ من تمويله، والعجز هو حاصل ما أنفقته التركيبة السياسية مجتمعة.
في السردية الثلاثينية الشائعة تضيع فرصة للنقد الجدي للحريرية، بعمق توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، لحساب خطاب مفرط في التسطيح والتسييس.