ما كان الرئيس رفيق الحريري مخطئاً حينما استثمر في تعليم اللبنانيين بعد الحرب. راهن أن يكون استثماره في البشر “حصّالة” مستقبلية للبنانٍ نامٍ ومزدهر. رصيدٌ أو قيمة مضافة تنقلنا من حالة الحرب التي أعادتنا إليها “تماسيح” السلطة اليوم، إلى حالة السلم والنمو والرفاهية. هؤلاء “التماسيح” أقصوا طبقة المتعلمين عن مقاليد صناعة القرار وأكرهوهم على العمل في الخارج وعلى الهجرة، مستبدلين “قطعانهم” الطائفية بالنخب المثقفة المؤهلة لإعفاء اللبنانيين من عذاباتهم اليوم.
لعمري ما أحببتُ لغة الأعداد، إلاّ أنّ الأزمة التي نرزح تحت نيرها جعلتني متابعاً شغوفاً لكل ما يمتّ إلى الاحصاءات والأرقام الاقتصادية بصلة. أتابع أخبارها وأسرح في النظر بحثاً في غياهب المخيلة عن تصوّرٍ لحل أزمتنا اللبنانية التي نقلتنا، بانتظام، من عيشة متواضعة راضية إلى معيشة الضنكِ.
أقرأ في الصحف وأسمع في نشرات الأخبار مصطلحات طارفات على قاموسنا اللبناني، مثال Haircut وCapital control وSwap يخيّروننا بينها لتكون حلاً ناجعاً لشحّ الدولارات، ولا أرى في واحدة منها (ولا حتى فيها كلها مجتمعة) حلّا بوجود طُغَم “التماسيح” التي تحكمنا، فكيف لمن كان جزءاً من المشكلة أن يمسي بسحر ساحر، جزءاً من الحلّ؟
ثم تعود ذكرى الخامسة عشر لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، فتذكّرك مكرهاً بجهود جبارة جمة بذلها الحريري الأب لانتشال لبنان من مستنقع الحرب الأهلية والأزمات. في حين ترى هذه “التماسيح” تنكأ جراحَ الماضي وتُغالي وتتقاذف التهم بلا أيّ خجل من الناس أو أيّ حسّ بالمسؤولية.
من بين إنجازات الحريري مؤسسته التربوية: “مؤسسة رفيق الحريري” التي كانت خزّاناً لكنوز بشرية. تمرّ بها في منطقة الرملة البيضاء اليوم، فترى جُدُرها حزينة. طوابقها وشرفاتها تخبرك أنها علّمت 36،100 طالب لبناني بنسبة عطاء 100% وسقف بلغ قرابة 200 ألف دولار للطالب الواحد. 3200 طالب حجّوا إلى أميركا وكندا، و8500 منهم ولّوا وجوههم شطر الدول الأوروبية (فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، أسبانيا) والشمال الأفريقية (المغرب، تونس الجزائر) فيما توزّع البقية على جامعات لبنان.
تفاصيل المبنى تهمس لك كيف كان رفيق الحريري يقول: “إذا بدّك تطوّر الشعب لازم تعلّمه”. لم يلتفت يوماً إلى انتماءات هؤلاء الطائفية أو المناطقية، بل كان المعيار دوماً الجدارة والكفاءات التربوية.
[START2]الحريري كان دوماً يردد: “أنا ما إلي عند الطلاب ليرة. المؤسسة بدها منهم مش أنا”[END2]
يقول لموقع “أساس” مدير “مؤسسة رفيق الحريري” السابق مصطفى الزعتري في ذكرى الحريري الـ15: “حين وصلنا إلى الرقم 30 ألف طالب بعد الحرب، أردنا أن نحدّ من أعداد المنح لأنّ التكاليف ارتفعت جداً. اقترحت على الرئيس رحمه الله، أن نأخذ طالبَين من كل عائلة فقط. فقال لي: وما ذنب الأخ الثالث إذا كان مجتهداً ويطلب العلم يا مصطفى؟”.
يروي قصة عسكريّ في الجيش اللبناني من الجنوب، علّم أولاده الخمسة المتفوقين على حساب المؤسسة. ثلاثة منهم نالوا شهادات الدكتوراه من أميركا وانكلترا والرابع شهادة ماجيستير من الجامعة الاميركية في بيروت، فيما تخرّج الخامس طبيباً وسافر إلى الخارج. يقول الزعتري “رأيت الرجل في أحد أسواق صيدا بعد أن تقاعد من المؤسسة العسكرية قبل سنوات وبات وحيداً مع زوجته. قال لي إنّ أولاده تركوه وهاجروا. ما كان هذا أمل رفيق الحريري، أرادهم أن يعودوا إلى لبنان لا أن يبقوا خارجه”.
نسأل الزعتري عن حجم الأموال التي استثمرها الحريري في عديد الطلاب، فيقول إنّه لا يملك أرقاماً دقيقة. ينفي نفياً قاطعاً أن يكون الحريري طالبهم بالمال لكنه في المقابل يؤكد أنّه لم يعفهم. فالحريري كان دوماً يردد: “أنا ما إلي عند الطلاب ليرة. المؤسسة بدها منهم مش أنا”. كان حلم رفيق الحريري أن يعيد هؤلاء، الأموال إلى المؤسسة فتتمكنّ من تعليم 36 ألفاً آخرين وربما 100 ألفٍ وأكثر.
المؤسسة حزينة لأنها أقفلت أبوابها. فالذين أعادوا أموال منحهم لا يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، يؤكد الزعتري هذا الأمر ويضيف: “حتى لا أظلمهم ربما هم أكثر بقليل لكن عددهم لا يتعدى أصابع اليدين”، هم حتماً أقلّ من عشرة طلاب فقط. كان الحريري يعزّي نفسه بالقول: “دخلك يا مصطفى يلي علمناهم بيقدروا ما يعلموا أولادهم؟ يلي عندو ولد أكيد رح يعلمه ويسوّيه بنفسه… وهيدا أمر كويس وكافي”.
الذين أعادوا أموال منحهم لا يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة
استثمر رفيق الحريري منذ ما قبل انتهاء الحرب بتعليم الآلاف بلا تمييز، أرسلهم إلى أصقاع الأرض ليعودوا إلى وطنهم بالشهادات الجامعية. لكن ثمة من قرر أن يقتله ويشرّد طلابه. ثمة من استنزف رصيده وصرف موظفيه بعد أن وضع يده بيد من يدّعي الوطنية ويخاف تعيين “حراسَ أحراج” بسبب انتمائهم الطائفي، ثم يتّهم الحريري الأب بعد مماته بالتسبب في خراب البصرة.
ليت هؤلاء يقدّموا شيئاً للبنانيين. ليتهم يعلّمون 36 ألف طالب حتى تصل أكتافهم إلى عتبة رفيق حريري… ربما يدركون أين هم من رفيق الحريري.