من قال للحريري: السلطة أو المحكمة

مدة القراءة 7 د

 

 

تاريخياً، لم يرتبط السنّة في لبنان بأيّ مشروع خارج “بناء الدولة”. إطلاق صفة “طائفة الدولة” عليهم لم يأتِ من فراغ، إذ لا مشروع آخر بديل عنها بالنسبة إليهم، وهذا يرتبط بطبيعتهم السوسيولوجية، على اختلاف تنوعاتها، بين أبناء المدينة وأبناء الريف. أهل المدينة التجّار والمستثمرون، خيارهم هو الدولة بما توّفره من أمن واستقرار يحمي أرزاقهم ومجالات عملهم. وأهل الريف كان خيارهم الوحيد الالتحاق بمؤسسات الدولة ووظائفها، فكانت هي قضيتهم، بلا أيّ قضية أخرى سواها. حتّى في عزّ الانجراف إلى القضية الفلسطينية أو القومية العربية، بقي خيار الدولة خياراً أوحد لديهم. بخلاف أبناء الطوائف الأخرى، الذين انجرفوا إلى مشاريع ورهانات متعدّدة.

كرّس “إتفاق الطائف” التوأمة بين السنّة والدولة. فتنامت السنّية السياسية كمشروع وطني جامع حمله رفيق الحريري وطبّقه، إلى مجيء لحظة الاختلال الكبير، باغتيال الرجل. فتحوّل “الشهيد” إلى قضية السنّة، والتي كان البعض يسعى، بتكريسها، إلى فصلهم عن الدولة. بُعَيد اغتياله وجد السنّة أنفسهم مستهدفين، وأصبحت قضيتهم في مكان آخر، وهي المحكمة الدولية، ومعرفة الحقيقة.

قتل سعد الحريري المحكمة الدولية، كما قُتل معظم المتهمين أو المرتبطين بتحقيقاتها

 

كانت أولى ملاحمهم السياسية في معركة داخلية حصراً، يريدون الدفاع عن النفس بمواجهة أيّ محاولة للإضعاف أو التهميش. خاضوا أشرس معارك البقاء كمؤثرين في تركيبة الدولة وبنيتها. وفي الطبيعة الاجتماعية للمجتمعات، يتحوّل الاستهداف والمظلومية إلى مصدر قوّة يرتكز عليه من يشعر بالظلم. كما هو حال “الشيعة” مع مظلومية كربلاء المستمرّة إلى اليوم تحت شعارات متعددة، قوامها “الدفاع عن الوجود” بمواجهة المؤامرات أو “الدفاع عن المقدسات”. وهذا ينطبق أيضاً على المسيحيين الذين يخوضون معاركهم على أساس وجودي لحماية “الوجود المسيحي” في الشرق واستعادة الصلاحيات المسلوبة.

تعايش السنّة مع قوتهم، المستمدة من دماء رفيق الحريري بعدما جمعت اللبنانيين ووحّدتهم حول مطلب واحد هو الحرية والسيادة والاستقلال، وإخراج الجيش السوري من لبنان. فكانت المحكمة الدولية ذراعهم القوية في منع تحقيق أيّ اختلال للتوازن أُريد فرضه باغتيال الحريري. كانت المحكمة هي المدخل الوحيد لاستمرار نضالهم في سبيل الدولة. وهنا لا بد من تأكيد الإختلاف الجوهري بين الدولة والسلطة.

تلك المحكمة التي أرّقت كل من يرتبط بمنظومة القتل، أصبح لبنان اليوم، على مشارف إعلانها حكمَها النهائي. لكنّها، بالمعنى السياسي، أُفقدت قيمتها ومعناها، على مذبح “تسويات سياسية” أبرمها ولي الدم، في سبيل السلطة. وهو يعلن أنّه ساوم في سبيل الدولة ومشروع رفيق الحريري.

قتل سعد الحريري المحكمة الدولية، كما قُتل معظم المتهمين أو المرتبطين بتحقيقاتها، من مصطفى بدر الدين، عماد مغنية، وكلّ المنظومة المعروفة باستثناء شخص أو اثنين فقط.

ما قتل المحكمة الدولية، كان وصول سعد الحريري إلى رئاسة مجلس الوزراء. إندفع الرجل كثيراً منذ العام 2006 إلى وراثة مقعد والده. تلّقى نصائح كثيرة بوجوب الإنتظار، وعدم خوض بحر مائج على صفائح ساخنة توجب المساومة وتقديم التنازلات. نجحت النصائح بثنيه عن الدخول بشخصه إلى رئاسة الحكومة لثلاث سنوات. لكنه لم يترك “الحلم”. بقي الرجل مصرّاً على تبوّء المنصب.

بعد اتفاق الدوحة، ذهب الحريري للقاء زعيم عربي كبير، طالباً منه بشكل مباشر أن يتولى بنفسه رئاسة الحكومة، فنصحه  بالتريث كي لا يجبر على تقديم ما لا يجب تقديمه. بعد انتخابات العام 2009، ذهب ثانية مصرّاً على مطلبه، فصارحه الزعيم الراحل: “يا وليدي يا سعد، عليك أن تختار بين الحكومة أو المحكمة”. وقال له: “دخولك إلى رئاسة الحكومة، سيجعلك تقدم التنازلات في قضايا كبيرة، وستُجبر على التنازل عن المحكمة الدولية، وتدخل في لعبة ليس أوانها، أنصحك بالتمهل والتفكير واستخارة ربّك”.

سارع الحريري إلى الإجابة بأنّه قد فكّر مليّاً واستخار ربّه، وقراره أن يتولّى بنفسه رئاسة الحكومة. وكأنّ الزعيم الراحل كان على بيّنة مما سيفرضه خصوم الحريري عليه، لاكتساب صكّ براءة سياسي من ولي الدم، يفقد للحكم القضائي أيّ قيمة. وصوله إلى السلطة حتّم إنجاز تسوية السين – سين، التي توّجها الرجل بزيارة بشار الأسد، المتهم الرئيسي باغتيال رفيق الحريري. عندها تخلّى سعد عن كل شيء في سبيل رئاسة الحكومة. وبدأت مسيرة انهيار مشروع “السنية السياسية” المرتبط ببناء الدولة.

15 سنة منذ اغتيال رفيق الحريري. تغيّر المشهد كلّه. لم يعد السؤال يتعلّق بالجمهور، بل بالقضية. ما هي قضية سعد الحريري؟

وبدأ الانقلاب، في انفراط عقد 14 آذار. إذ كتب الحريري مقاله الشهير في جريدة “الشرق الأوسط”، الذي طوى صفحة نضال كبيرة في سبيل الدولة، ليفتح صفحة المساومات السياسية. أخذ الخصوم ما أرادوه، فيما حصّل الرجل لقب رئيس مجلس الوزراء للمرة الأولى قبل الإنقلاب عليه في 2011 وبدء مسيرة الإضعاف، مقابل فقدانه كلّ عناصر قوته، طالما أنّه كان قد استنفدها في السين – سين. غاب عن المشهد وابتعد. أحبط الجمهور الذي وجد نفسه وحيداً. لم تعد الدولة رهانه لأنّها أصبحت في يد الخصوم، المحكمة كانت قد ضاعت على مذبح التسوية. تحقّق الشرخ بين الحريري وناسه. هو يبحث عن فرصة للعودة، وهم يتأمّلون يقظته لإعادة تجديد الحلم وبناء الطموح باستعادة القضية.

يوم قرّر العودة، كانت حساباته قد تغيّرت كلياً عن حسابات جمهوره، في العام 2013، وقبيل أشهر على انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، كان الحريري يعقد لقاءات سرية في باريس وإيطاليا مع ميشال عون وجبران باسيل لإبرام تسوية رئاسية يعود من خلالها إلى السلطة. أوقف الأمير سعود الفيصل هذه التسوية، التي اعتبرها انتحاراً للحريري والحريرية، وتسليماً للبنان إلى عون وحزب الله. في العام 2016، عاد الحريري بتسويته الشهيرة مع عون، الذي وصل إلى رئاسة الجمهورية ويحضّر لعملية لتوريث باسيل، فيما الحريري كان خارج السلطة، في حالة ضياع سياسي وشعبي.

15  سنة منذ اغتيال رفيق الحريري. تغيّر المشهد كلّه. لم يعد السؤال يتعلّق بالجمهور، بل بالقضية. ما هي قضية سعد الحريري؟ وأينها؟ بالتأكيد ليست العبور الى الدولة التي يريدها الجميع. الحضور يرتبط بالقضية، والقتال في سبيلها، لكنّ الرجل كان قد تخلّى عنها، عندما قال من على منبر ذكرى رفيق الحريري في العام 2019، بأنّه لا يهتم بالسياسة ولا تعنيه، بل همّه اقتصادي حصراً. بدّد سعد الحريري كلّ القضايا. لم يعد في السلطة وهاجسه الوحيد هو العودة إليها. وهو حتماً ليس في المعارضة. كان رفيق الحريري صاحب هدف ومشروع، لبناء الدولة، واقتصاد متنامٍ، يرتبط بدور لبنان محلياً وخارجياً. بينما غرقت الحريرية بعده في الجزئيات والتفاصيل السخيفة، من قبيل المكاسب والمواقع والمال، وهذه كلّها كانت وسائل لدى رفيق الحريري وأدوات في قضيته الكبرى.

خسر سعد الحريري “المنافع” بعدما خسر القضية. تحكّمت فيه المزاجية الشخصية، والتي حملت مفاجآت، من الاتفاق مع التيار الوطني الحرّ، وقبله سليمان فرنجية، وقبلهما الحوار مع حزب الله، والذهاب إلى أحضان النظام السوري. فكان يفاجئ حلفاءه وجمهوره قبل خصومه. فأضاع قضيته، بإنهاء خياراته السياسية، إذ لم يعد لديه مقوّمات البقاء. وأسوأ ما يمكن أن يصل إليه، هو الرهان على علاقته بحزب الله، للحفاظ على بعضٍ من وجود. فقد قدرته على أن يكون قائداً في أيّ خيار، وانعدمت قدرته على قيادة المعارضة.

 

 

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري والمسيحيون… الفهم المتأخّر

  لكم هي شديدة الحاجة اليوم إلى رفيق الحريري لجمع أطراف الوطن! كان الرئيس الشهيد رابطاً بين لبنان ولبنان رُغم أنّ علاقته ما كانت سهلة…

طرابلس: كلن يعني كلن.. إلاّ “رفيق”

  تمتلك طرابلس ذاكرة تنبض بالحبّ والوفاء والحنين وبالثناء والتقدير لرفيق الحريري، قلّما امتلكتها مدينة أخرى، وعبـّرت عنها في مختلف المحطات، قبل الاستشهاد وبعده، بدون…

الثنائي في النبطية وقوّة الثورة

  فاطمة ترحيني تشهد محافظة النبطية مواجهة جديدة، أشبه بصراع دائم، بعدما استطاع جزء من أهل المدينة وقراها الاعتراض على “حزب الله” و”حركة أمل” وكل…

في وداع الحريرية؟

  هل سيستمر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السياسة أم لا؟ يصعب افتراض أن أحداً يملك إجابةً عن هذا السؤال، حتى عند الحريري نفسه،…