هكذا انقلبتُ على “الحريرية”

مدة القراءة 6 د

 

كنت في الحادية عشر من عمري. كان يوم إثنين وكانت الساعة الواحدة ظهراً. أذكر تماماً أنّنا عدنا باكراً من المدرسة، وأنّي وجدت أبي عائداً باكراً من عمله، باكياً على كنبته، في منزلنا، في أنصار- جنوب لبنان.

كانت المرّة الأولى التي أراه فيها باكياً: “قتلوا رفيق الحريري”.

أكاد لا أذكر مرور يوم في منزلنا يخلو من نقاشات سياسية كنت أصغي خلالها بتمعّن، وأرغب بالمشاركة فيها. كنتُ أتابع نشرات الأخبار يوميًا مع أبي دون انقطاع أو تذمّر. عرفت أولاً الحزب الشيوعي اللبناني، إذ يأتي والداي من خلفية يسارية، وكان أبي قد انخرط في العمل الحزبي وسمعت قصصاً عن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، و”القضية” و”تشي غيفارا”. أذكر المهرجانات التي ذهبت إليها وتحديداً اثنين منها، الأوّل في حصرايل احتفالاً بخروج أنور ياسين من الأسر، والثاني في مرجعيون الذي شكّل خيبة أمل، إذ تحوّل إلى مشهد يناصر قوى الممانعة والثامن من آذار وكانت “القطيعة مع الشيوعية”.

إعتبر والدي أنّ رفيق الحريري يمثّل حلم اللبنانيين والمنقذ الذي سينهض بلبنان، وشكّلت جريمة قتله بهذا الشكل صدمة لمن آمنوا به، ولكلّ من عارض النظام السوري وأدواته في لبنان.

“إعادة إعمار بيروت” حقّقت منه المصارف أرباحًا هائلة بفضل الفوائد المرتفعة

في ذلك الحين، بعد عام 2005، اشتدّ الخلاف وكان الاصطفاف متمثّلًا بمعسكرَي “الموالاة” و”المعارضة”. لم يكن من السهل العيش في بيئة حزبية تؤيّد الثنائي الشيعي وأن تكون من المعارضين لهما، وأن تعلّق صور “الشهيد” في دكان صغير، في حين تملأ صور “أخصامه” السياسيين الشوارع المحيطة وتحتلّ الجدران والأبنية، مع ما يرافق ذلك من اتّهامات معلّبة وجاهزة بـ”العمالة”. لكنّ ذلك لم يمنعنا من ممارسة قناعاتنا والمشاركة في إحياء مناسبات 14 آذار وذكرى 14 شباط سنوياً. كان رفيق الحريري يستحقّ ذلك، وكانت قوى 14 آذار تمثلّ أمل الكثيرين.

لم يسمح لي صغر سنّي أن أتّخذ موقفاً مغايراً، إن كان من رفيق الحريري أو من الحزب الشيوعي اللبناني، وصدّقت أنّ الحريري يمثّل كلّ ما سمعته من نجاحات سياسية وأعمال خيرية. هذا ما عرفته: أنّه نهض بالاقتصاد وأمّن فرص العمل، وأعاد إلى الدولة اللبنانية شيئاً من هيبتها. لكن كلّ هذا تغيّر بعد بدء موجات الحراك المدني، وتعاظمها، وانتشار وعي “أنتي حريري”، رفد إعلام “الممانعة” الذي بات طاغياً في لبنان.

في العام 2015،  بدأ الشعور بالنقمة يتنامى تجاه “سوليدير” وما تمثّله من “سلطة رأس المال”. حفظنا جملة مغني الراب مازن السيد، “الراس”، “ما في زبالة بسوليدير، هيي زبالة سوليدير، ما في كازينو بلبنان هوي كازينو لبنان”. لكن الأمر لم يكن بالوضوح الذي انقلب عليه بسبب “17 تشرين”، حيث كان العنوان الأساس مندداً بـ”الأوليغارشية الحاكمة”، و”الفروقات الطبقية”، و”حكم المصرف”، و”النموذج الاقتصادي” الذي مثّله رفيق الحريري خلال فترة حكمه. ذلك القائم على الخصخصة، على ريادة القطاع المالي والعقاري، وتهميش قطاعي الزراعة والصناعة. وكان أبرز ما اعتُبر إنجازاً هو “إعادة إعمار بيروت” الذي حقّقت منه المصارف أرباحًا هائلة بفضل الفوائد المرتفعة على الدين التي دفعها اللبنانيون.

وفي هذا الإطار يقول الوزير السابق هنري إدّه، وهو أحد واضعي تصاميم مشروع “سوليدير” لوسط بيروت، إنّ “ثروات رهيبة حقّقها البعض من ديون لبنان البالغة 30 مليار دولار”، مؤكداً أنّ “22 ملياراً ذهبت إلى المصارف كفوائد على الدين” (السفير 8 آذار من العام 2002) استنداً إلى كتاب الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان”، للدكتور فواز طرابلسي.

ما خضته من تجارب شخصية كان كافياً لأصبّ جام حقدي على النظام اللبناني الفاسد وما يمثّله من “رأسمالية فاحشة”، تزيد الثرّي ثراءً والفقير فقراً، وتقضي على فرص أبناء المناطق المهمّشة بالحصول على تعليم مقبول يتساوى في مستواه مع المدارس الخاصة ويساهم في تأمين مستقبلهم. صرت مؤمنة، مع كثيرين من أبناء جيلي، أنّ هذا النظام لا يأخذ أبناء المناطق الريفية بالحسبان، كما يظلم الوافدين إلى بيروت ويقف في طريق سعيهم إلى تأمين عيش كريم أرادوه من المدينة. فالراتب الشهري “أنجق” يؤمّن أبسط الحاجيات الأساسية، ولا خيارات أخرى في ظلّ انعدام المواصلات العامة بين القرى والعاصمة وغياب فرص العمل خارج العاصمة.

أبي، الذي أحبّ رفيق الحريري، أمضى معظم سنوات عمره في ورش “البلاط”، ولم يستطع أن يدّخر قرشاً واحداً. أبي “الفقير” أحبّ رفيق الحريري “الغني” ولمّا يزل، لكنّني أنا من تغيّرت. أبناء جيلي كانوا أكثر صلابة في تحطيم أصنام القادة والزعماء. وضع والدي جلّ آماله في أرض يملكها، أراد الاستثمار فيها من خلال بناء مشروعٍ سكني يؤمن له دخلًا كافيًا ليتقاعد، لكنّ استفحال الأزمة الاقتصادية اليوم منعه من تحقيق حلمه.

حتى قطاع العقارات الذي أحبّه ودعمه وعزّز من مكانته رفيق الحريري لم يسلم من الأزمات المتلاحقة التي عصفت بنا.

ذات يوم بكيتُ فرحاً خلال مشيي ضمن إحدى تظاهرات ثورة 17 تشرين، ودائمًا تعمّدت البحث عن المجموعات اليسارية للانضمام إليها خلال مسيري. شعرت بأنّ هتافَي “الوطن للعمال / تسقط سلطة رأس المال”، و”تسقط الأوليغارشية الحاكمة” هما شعاران يمثّلاني، واستمعتُ مراراً إلى أغنية “الراس” الجديدة: “المشكل طبقي والحل مجتمعي”، “عدوّي منّو اللاجئ، عدوّي البنك المركزي”. باتت تطلّعاتي على نقيض تام مع كل ما تمثّله الحريرية السياسية في لبنان.

أؤمن أنّ هذه الثورة قامت لتعود العاصمة عاصمة. ليست بيروت “وسط البلد” وليست “سوليدير”. ليصبح الوطن وطناً لا شركة

يقول برسي كمب  لجريدة “لوريان لو جور” في العام 2007: “الآن عندما نقول عاصمة في لبنان، نعني الوسط التجاري،
عندما نقول بيت الأهل نعني المضاربة العقارية،
عندما نقول غابة وكرماً وبستان برتقال أو حقل زيتون، نعني عقاراً للبناء،
عندما نقول موطناً نعني مساهماً في شركة،
عندما نقول وطنياً  نعني ملاّكاً،
عندما نقول قيماً نعني ثروات،
عندما نقول ديمقراطية نعني بلوتقراطية (حكم الأغنياء)،
عندما نقول حرية نعني أسواقاً حرة،
وعندما نقول سيادة نعني إفلاساً”.

أؤمن أنّ هذه الثورة قامت لتعود العاصمة عاصمة. ليست بيروت “وسط البلد” وليست “سوليدير”. ليصبح الوطن وطناً لا شركة.

بعد 17 تشرين لا يوجد رجل يمثّل أحلامنا، ولا قائدًا نهتف بحياته أو نفديه، بل بتنا على تناقضاتنا نعي أسباب معاناتنا. نعي أنّ نظامنا وُجد لخدمة الأغنياء، وأنّه يكره فقراءه، أنّنا لا نريد محاربة الفساد فقط، بل نريد عدالة اجتماعية، وأنّنا معارضة، لا تشبه سابقاتها.

 

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري والمسيحيون… الفهم المتأخّر

  لكم هي شديدة الحاجة اليوم إلى رفيق الحريري لجمع أطراف الوطن! كان الرئيس الشهيد رابطاً بين لبنان ولبنان رُغم أنّ علاقته ما كانت سهلة…

طرابلس: كلن يعني كلن.. إلاّ “رفيق”

  تمتلك طرابلس ذاكرة تنبض بالحبّ والوفاء والحنين وبالثناء والتقدير لرفيق الحريري، قلّما امتلكتها مدينة أخرى، وعبـّرت عنها في مختلف المحطات، قبل الاستشهاد وبعده، بدون…

الثنائي في النبطية وقوّة الثورة

  فاطمة ترحيني تشهد محافظة النبطية مواجهة جديدة، أشبه بصراع دائم، بعدما استطاع جزء من أهل المدينة وقراها الاعتراض على “حزب الله” و”حركة أمل” وكل…

في وداع الحريرية؟

  هل سيستمر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السياسة أم لا؟ يصعب افتراض أن أحداً يملك إجابةً عن هذا السؤال، حتى عند الحريري نفسه،…